صناعة الثقافة (1)
د. نضال الصالح
أجل، الثقافة صناعة، والصناعة علم وخبرة، والعلم والخبرة معاً ضرورتان في أيّ صناعة، فلا قيمة للأول في غياب الثانية، ولا حصافة في الثانية من دون الأول، فكيف إذا كانت هذه الصناعة تعني الثقافة التي هي في أصلها حاجة وليست ترفاً، ومتناً في رقيّ المجتمعات وقوّتها وليست هامشاً؟ وأيّ ثقافة هي كذلك إذا فقد الصانع أحدهما أو كليهما؟ أو إذا لم يكن يمتلك في الأصل أياً منهما؟ ما مِن ريب في أنّ الحال الأولى تعني أداء لوظيفة، لا صناعة، وفي أنّ الحال الثانية يمكن أن تعني أيّ شيء سوى الثقافة نفسها، وما مِن ريب أيضاً في أنّ مَن يحدّد قيمة المنتج الثقافيّ هو صانع الثقافة، عبر علاقة النسب التي تربطه بالعلم من جهة، وكمّ الخبرة في مجال صناعة الفعل الثقافيّ من جهة ثانية.
للناقد الفرنسي رولان بارت تمييزات باهرة الحصافة فيما يعني الإبداع، ومن ذلك تمييزه بين النصّ الأدبي والعمل الأدبيّ، وبين النص القابل للقراءة والنص القابل للكتابة، وبين المؤلف والكاتب، وفي العمل الثقافي يمكن التمييز بين متضادين: موظف فحسب وموظف مثقف، الأول لا يعنيه من أمر العمل الثقافي سوى أدائه لوظيفة، ومن ثَمّ إيهام نفسه قبل سواه بأنّه صانع ثقافة، والثاني يعنيه العمل الثقافيّ نفسه، أي بوصفه رافعة للوعي وحاملاً للتنوير والتغيير، وشتّان ما بين الاثنين، فعلى حين لا يتجاوز عمل الأول كونه وجوداً بالقوة، يتجلّى عمل الثاني بوصفه وجوداً بالفعل، وعلى حين يستهدف الأول امتيازات تخصّ صانع الفعل، أي تحقيقاً لذات فردية، أو “أنا” مشغولة بتثمير رصيدها من عائدات الفعل على المستوى الشخصيّ، يبدو الثاني مؤرقاً بالثقافة نفسها، ولاسيما تمكينها من أن تكون فاعلة في الواقع، وحاجة أساسية في الحياة، وليست حلية أو زينة أو موصوفاً مدقعاً في فقره للصفات التي يجب أن تكون له ومنه وفيه، ومن تلك الصفات أن تكون معنية بحياة الجماعة، أو بوصفها طريقاً متميزاً لهذه الحياة، كما نصّ على ذلك مؤلفو كتاب “نظرية الثقافة”(سلسلة عالم المعرفة، العدد 223)، الذين رأوا أيضاً أنّ الثقافة هي التي تمدّ المجتمع بالأدوات اللازمة لاطراد الحياة فيه.
غير قليل من الموظفين في غير قليل ممّا يعني الثقافة، بل على الأصحّ غير قليل ممّن جاء إلى الثقافة على غفلة منها، يشبه، في يومياته وأوهامه تلك النملة التي تصفها العامة بالطيّارة، والتي لا حيلة لها في الطيران غير جناحين ضعيفين، لا يقويان على الارتفاع بها فوق الأرض سوى أقلّ من قيد أصبع، على حين أنّ الفعل الثقافيّ يتطلّب نسوراً، ليس على سبيل الاستعارة من النسر، بل على سبيل الحقيقة، الذي من بعض الصفات المميزة له مقدرته على الإبصار الحادّ، واختياره للعيش في الأماكن المرتفعة جداً عن الأرض، أي مقدرة صانع الثقافة على رؤية حاجات العقل بعينين ثاقبتين.
وبعدُ، وقبلُ، فلله درّ الشاعر الكبير عمر أبو ريشة الذي خلّد برائية بديعة حكاية ذلك النسر!