هل سيشهد العالم ثلاثة أقطاب؟
ريا خوري
مع اقتراب نهاية العام 2020، وبدء التحضيرات لاستقبال العام الجديد 2021، ما زلنا نتابع آخر التقارير السنوية التي تصدر عن مراكز الدراسات والأبحاث ومؤسّسات الاستشارات والدراسات وتقييمها لهذا العام وتوقعاتها للعام القادم.
هذا الأمرُ ينسحب أيضاً على المؤسّسات الاقتصادية والمالية العالمية والإقليمية، ومن بينها مؤسسات التصنيف الائتماني العالمية الرئيسية التي تعتمد على ذلك التقييم، والتوقع في رسم صورة لخفض أو رفع تصنيف الدول والمناطق. في هذا المجال بالذات، توقع تقرير مهمّ صادر عن مؤسسة التصنيف الائتماني (موديز)، أن تعمّق أزمة وباء كوفيد 19 (كورونا) المنافسة بين ثلاثة أقطاب رئيسيّة في الاقتصاد العالمي، وتوجّه العالم نحو اقتصاد ثلاثي القطب اقتصادياً. هذه الأقطاب هي الصين والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وهو مسار له مقدماته حتى قبل بدء أزمة جائحة (كورونا) التي بدأت مطلع هذا العام.
ففي مسار بناء اقتصاد ما بعد كوفيد 19 (كورونا) ركزت الصين على التطوير والابتكار التكنولوجي، مع استمرار تنافسها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، وسعيها الدؤوب إلى بناء المزيد من أواصر التعاون مع الاتحاد الأوروبي. أما الولايات المتحدة فإنها تسعى إلى تعزيز التعاون مع دول الاتحاد الأوروبي في العديد من المجالات وعلى رأسها المجال الاقتصادي، مع سعي دول الاتحاد الأوروبي إلى إقامة علاقات متينة مع الصين، وخاصة بعد فترة الخلل الناجمة عن سياسات إدارة الرئيس ترامب من الحزب الجمهوري في السنوات الأربع الماضية.
هذا التقرير من (موديز) يستند إلى ما شهدناه من المواقف التي اتخذتها دول العالم من أزمة جائحة (كورونا). أما بالنسبة لمؤسّسة التصنيف فسيكون لهذا التوجّه العالمي ارتداداته وتبعاته على التجارة ومعايير قواعد التشغيل وسلاسل التوريد والتكنولوجيا ودور الدول والحكومات في الاقتصاد.
من الممكن أن تكون جائحة (كورونا) مجرد تحفيز قويّ لتعزيز هذا التوجّه، لكن بداياته تعود إلى مطلع القرن 21 الذي نعيش فيه، وتحديداً في الفترة التي حكم فيها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن من الحزب الجمهوري، ففي هذه الفترة بالذات بدأت الخلافات والشقاقات بين ضفتي المحيط الأطلسي.
من جهتها لم يكن صعود الصين على الصعيد العالمي منذ ثمانينات القرن المنصرم سوى على الصعيد الاقتصادي، لكن مع بداية القرن الحادي والعشرين تعزّز هذا الصعود في جوانب عديدة أخرى، وإن بقيت الصين لا تسعى إلى منافسة الولايات المتحدة على موقع قيادة العالم كقوة عظمى وحيدة وكقطب أوحد. ولكن بقيت فترتا رئاسة جورج بوش محاولة كبيرة لتعزيز القوة الوحيدة العظمى، أي القطبية الأحادية في العالم، لكن ذلك التوجّه كان أقلّ بكثير في فترتي رئاسة باراك أوباما من الحزب الديمقراطي، إلى أن جاء الرئيس السابق دونالد ترامب، وحاولت إدارته استعادة قوة الأحادية القطبية، وركزت في ذلك على الجوانب الاقتصادية والتجارية، كما شهدنا ما تمّ وصفه بأنها حرب تجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها. واستهدف ذلك الصين أكثر من دول الاتحاد الأوروبي، لكن سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب في النهاية زادت من ضعف دول الاتحاد الأوروبي، وكان لتأثير ترامب أوروبياً نتائج أكثر ضرراً ربما مما أصاب الصين، ليس بسبب تشجيع العديد من التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة والمتشدّدة، رافعة شعار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي فقط، لكن أيضاً عبر محاولة أخذ الدور واغتنام الفرص في قيادة الاتحاد الأوروبي بين ألمانيا وفرنسا.
إدارة الرئيس الديمقراطي المنتخب جو بايدن من المتوقع أن تحاول الولايات المتحدة استعادة العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي بدرجة ما. أما بالنسبة لجمهورية الصين، فمهما كانت مواقف إدارة بايدن، فإن تركيزها سيكون على محاولة استعادة مركزها القويّ الأول في مجال التطور التكنولوجي الذي بات راية رئيسية للصين في الوقت الحالي. أما على الصعيد السياسي فلن تتمكّن إدارة الرئيس بايدن سوى القيام بمحاولة إعادة تنظيم العلاقات بين الأقطاب الثلاثة، الولايات المتحدة الأمريكية والصين والاتحاد الأوروبي.
في المجال الاقتصادي من المتوقع أن يبقى اقتصاد الولايات المتحدة الأول عالمياً، لكن من الواضح تماماً أن دوره كمرتكز أساسي لتطور الاقتصاد العالمي، إن كان سلبياً أم إيجابياً، سيستمر في التراجع النسبي لمصلحة دور الاقتصاد الصيني والاتحاد الأوروبي المتصاعد. مع كلّ هذا سيزداد التنافس الاقتصادي بين الأقطاب الثلاثة، كما سيزداد دور الدولة في الاقتصاد وخاصة في القطاعات التي تعتبر أن لها أهمية خاصة وحساسة بالنسبة للأمن القومي وعلى رأسها التكنولوجيا.
في هذا السياق بالذات نجد أن الصين تضفي طريقة إدارتها لاقتصادها المتصاعد بسرعة على القطبين الآخرين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وإن كانت دول الاتحاد الأوروبي لديها قواعد متوازنة ما بين المركزية الصينية الشديدة والليبرالية الشديدة التي تتبناها الولايات المتحدة أيضاً، إنما الأهم من كل ذلك أن الولايات المتحدة ستتجه أكثر نحو طريقة الصين وأوروبا.