ثقافة

“النافذة”..جمالية مكاشفة الذات

في لحظة من عمر الزمن، نرى الحياة وقد أخذتنا في مساربها، ونرى اللحظات قد امتدت واتسعت لتصبح زمناً مديداً تتشابه فيه الأيام، نعيش تكرار أيام متشابهة يتقاذفها الروتين وتثاقل الوقت وعبء الحياة، والأحلام تتلاشى دون أي فرصة لتحقيقها، فنبقى مطعونين بأحلامنا وتطلعاتنا، نركض وراء اللحظة الهاربة منا، نحاول الإمساك بها علّنا نستعيد بعضاً مما مضى. لكن هو الزمن يمشي مسرعاً تاركاً وراءه كل من لم يستطع اللحاق به.

“النافذة” عنوان العرض المسرحي الذي يُعرض على مسرح القباني، للمسرحي البولندي إيرينيوش ايريدينسكي، دراماتورجيا وسيم الشرقي، وإخراج مجد فضة، حيث عمل المخرج على مسرحة الواقع، فحمل العمل الكثير من الصدقية والشفافية ليضعنا جميعاً في مواجهة أنفسنا، نبحث عن أجوبة لأسئلة أرهقت أرواحنا ورمتنا خلف عتبة الحياة.
في هذا العرض يضعنا المخرج أمام لحظة نعيشها جميعاً، لكنها تبدو أكثر تجلياً وحضوراً في ثنائية المرأة والرجل، هذه الثنائية التي تتحدث عنا كأشخاص منفردين ومن ثم عندما تجتمع الطباع، تجتمع معها التناقضات والمفارقات جميعها وتنتج حالات مشابهة لها. يناقش العرض فكرة الحب الذي يبدأ بهالة كبيرة من الألق، سرعان ما تخبو مع مرور الوقت، إذ يضيع هذا الحب في تفاصيل الحياة، وما يبقى فقط هو الذكريات والبحث الدائم عن استمراريته أو وجوده، في محاولة لاسترجاع الماضي النابض بعبق الحنين والحب، والرغبة في أن يكون هذا الماضي ممتداً للحاضر، والسؤال الذي يلح على الذات، هل الزواج هو الذي يصيب العواطف بالملل، ويُبقي المشاعر ذكرى يستعيدها الزوجان في لحظة ضيق؟ فالزوج (مازن الجبة) الذي يهرب من هذا الواقع، ومن ماضيه وحاضره إلى نافذة في بناية مقابلة لبيته، يترقب ضوءاً في غرفة معتمة، فنراه موزعاً بين قلقه وشغفه الحياتي، وكأنه يعلّق على هذا الضوء آمالاً بتغيير ينتشله من رتابة وروتين حياته، بينما الزوجة (جفرا يونس) التي اعتادت على أعمال البيت أصبحت تندب أنوثتها، بعد أن أرهقتها حالة زوجها بجلوسه الصامت أمام هذه النافذة، يرقب حلماً وربماً وهماً يأمل من خلاله أن يتغلب على نفسه.
تحاول الزوجة الصراخ فتختنق بجراحها، وتبقى الدمعة غصة في حلقها، والمفارقة أنها عندما تحاول أن تستوضح الحالة التي يعيشها زوجها، فتنظر إلى الجهة التي ينظر إليها –النافذة- تنقلب الحالة ويتبادلان الأدوار، ففي حين يتحرر الزوج من حالته، ويحاول العودة إلى حياته الطبيعية، نرى الزوجة قد أُخذت بوهم الحالة وأصبحت مشدودة إلى النافذة التي كانت محور مشكلتها مع زوجها، ويبدو أنها وجدت نفسها في مواجهة مع ذات الوهم الجميل الذي عاشه زوجها بالتغيير لواقع أفضل، فالعمل يخاطب في مقولته العتمة القابعة في داخلنا وتطلعنا جميعاً لضوء يحمل لنا الأمل بالنجاة، وينقذنا من واقع البؤس والدمار الروحي والمادي الذي خلفته سنوات الحرب في نفوسنا، وجعلتنا ندور في دوائر ضيقة عبّر عنها أثاث الغرفة -مسرح الحدث- بشكل واضح.
لقد وضعنا مخرج العمل في مكاشفة مع أنفسنا وواقعنا، فحالة هذين الزوجين هي تصوير لواقعنا باختلاف بعض الحيثيات بين ظروف كل شخص، لكن من يستطيع أن ينكر حاجته لتمزيق ستار العتمة الذي يحجب عنه النور الذي يستنير به روحه، وكلنا معنيون بتغيير واقعنا وواقع الناس المحيطين بنا، بأن نتحرر من المراوحة في المكان ونتطلع إلى مستقبل يكون أفضل بكل معطياته. فنحن لانستطيع حمل حقائب الحياة لوحدنا، نحتاج دائماً من يحمل عنا شيئاً من أيامها، فالروح التي لا تشاركها روح أخرى معرضة للانتكاسات والمرض.
سلوى عباس