الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

تطبيعٌ أم تضبيع؟

عبد الكريم النّاعم

بعد إلقاء التحيّة بحياديّة خالية من ريح المودّة التي عمرها عمْرنا تقريباً قال: “اسمع سأبدأ من النّهاية، ثمّة وَتْوَتاتفي الشارع تثير الكثير من المخاوف، بل قد تبلغ حدّ الذّعر“.. 

أجابه: “كفانا الله شرّ كلّ ما يذُعْر، هات ما عندك“.

قال: “يتحدّثون، أحياناً همساً، وأحياناً بصوت قريب من الجَهْر أنّ الأزمات المتوالية، والتي لا تتوقّف، بل تتناسل بطريقةالكورونا،.. من الخبز،.. إلى الغاز،.. إلى المازوت،.. إلى الفساد الذي فشا بطريقة تثير الذّهول،.. إلى الغلاء الذي تنفخه سعيراً في وجوهنا قيمة الدّولار،.. وبارتفاعه ترتفع جميع الأسعار، وحين ينخفض لا ينخفض معه شيء، حتى لكأنّ لنا سوقنا الخاص الذي يوجّهه تجّار الجشع الوجهة التي تُناسب جيوبهم،.. هذا كلّه من أجل إيصال المواطن إلى حالة يصبح فيها لا يهمّه إلاّ رغيفه، وكيف يؤمّن مواد عيش اليوم التالي، وبذلك يتمّ سحبه تدريجيّاً، وبأسلوب شيطاني من مواقع الاهتمام بالشأن العام، وفي مقدّمتها قضيّة العرب المركزيّة، الأرض المحتلّة منذ عام 1948، ويضعونه أمام خيارين أحلاهما علقم، وربّما نجحوا في جعله يدير ظهره لتلك القضيّة، ولا يهمه إلاّ أن يتخلّص من ربْقة المعانيات اليوميّة، فها أنت ترى أن الكهرباء وحدها قد أصبحت الشغل الشاغل، والكهرباء دخلت في صميم حياتنا اليوميّة كضرورة من الضرورات، فالمرأة التي تريد أن تخضّ اللّبن في القرية لاستخراج الزّبدة منه، أصبحت لا تستطيع القيام بذلك إلاّ بواسطة الكهرباء، فهي تضع اللَّبَن في وعاء، وتصله بتيار كهربائيّ فإذا هو مخيض بعد عدّة دقائق، لقد كسروا أرواحنا من الداخل“.. قالها وأدار وجهه جانباً يُداري غصّة داهمتْه.

أجابه بتعابير وجه مسكون بالأسى: “معك حقّ، أنا لا أستبعد أن يكون ثمّة في الداخل من يعمل لمصلحة تلك التوجّهات التي أشرتَ إليها، وفي المعركة تُستخدَم كلّ الأسلحة المُتاحة، ولكنْ اسمح لي أن أبدأ من النّهاية، فمربط الفرس هناك، في القضيّة المركز كما أرى، ولولاها لَما شاهدنا كلّ هذه الرّزايا، فقد نجحتْ واشنطن في سوق عدد من عواصم العرب إلى المواقع التي ترضى عنها إسرائيل، وها أنت ترى تلك الهجمة من مراكش، إلى الخرطوم، إلى إمارات الخليج، إلى الوعد القادم في السعوديّة، وهذا شيء خطير ولا شكّ، ولكنْ هل يستطيع كلّ هذا أن يخترق الحاجز الشعبي بين المحتلّين الصهاينة وعامّة هذا الشعب؟.

منذ كامب ديفيد حتى الآن، أي على مدى أكثر من أربعين عاماً، هل تمكّن الصهاينة من التّواصل مع النسيج الشعبي في مصر، والذي يجسّد روح الأمّة؟! لقد أبرموا معاهدة وادي عرَبَة مع الأردن، فهل استطاعوا حتى السير في شوارععمّانمطمئنّين؟! حتى في الإمارات ثمّة استطلاعات لشاشات لا تعاديهم، تقول إن تسعة وسبعين في المائة من الشعب ليسوا مع هذا التطبيع، أنا أرى أن ما يفعلونه هو شيء منالتّضبيعلا من التّطبيع، بكلّ ما في الضَّبْعَنة من كراهة رائحة، ونَتَن جيفة، أقول إنّ الحواجز بين رغبات ومصالح المتحالفين مع تل أبيب، إرضاء لواشنطن،.. ووقائع ما في نفوس أبناء هذه الأمّة،.. سميكة سماكة قرون لم تُنسخ من الذاكرة، وهي بحجم المشاعر التي تتلهّب مكبوتة، وليس ما نعانيه في سوريّة إلاّ مظهراً من مظاهر ذلك الصراع، ولستُ أسوّغ لمقصِّر تقصيره، ولا لجَشِع لا يشبع جشَعه، ولا لمتهاون تهاونه، بل أرى أن معركة بهذا الحجم، وبهذا العمق تحتاج لحلول خارقة للخروج مما نحن فيه، لأنّنا إن أتحْنا للعدو أن يكسب معركته في الداخل السوري، نكون قد سلّمنا مفاتيح آخر القلاع..

اسمع يا صديقي أنا أرى أن ما يُساق إليه عدد من حكّام العرب، في دفعهم للهرولة باتجاه تل أبيب هوإجراء قسريّ” تدفع به قوّة واشنطن، وهذا ظرف آنيّ، وعمْر الأمم لا يُقاس بالأزمنة القصيرة، ورغم كلّ ما نعانيه، وأنا واحد من أصحاب هذه المعاناة،.. رغم هذا أقول إنّ غداً لناظره قريب.. أقولها رغم ما سينصبّ على هذا الموقف من سلبيّات بسبب الوضع العام، الذي يُرضي كلّ عدوّ، ولا يسرّ أيّ صديق.

aaalnaem@gmail.com