الطراز المعماري الحديث في “ذرعان”
وقفت ملياً أمام البناء المعماري في رواية (ذرعان) للكاتب والأديب محمد الحفري، المتعدّد المواهب، ومتسائلاً عن جماليات البناء الروائي الحديث ودوره في إيصال رسالة الأدب الإنسانية وما تمثله من طموح في اختزال العمر بين دفتي كتاب. وأول ما لفت انتباهي هذه الجرأة في اختيار البناء القائم على الترتيب الآتي: خاتمة النص من الصفحة السابعة وحتى الصفحة الثامنة والعشرين، حيث يبدأ استهلال أقل ما يقال فيه إنه عود على بدء وتأسيس للبناء الفني المتكامل والذي سرعان ما يصل إلى رأس النص ص 41.
فتلاقينا حاشية ص65 لكنها ليست اسماً على مسمّى بل هي أطول مدماك في البناء القائم على أعمدة راسخة من الثقة بالنفس، نظراً لعمق التجربة وما أعطته من دروس وعبر، وما تكلّلت به التجربة الإبداعية لمحمد الحفري من جوائز يستحقها، وكأنه (بلا حسد) قد خلق ليحصد الفوز، ذلك لأنه قد نال أكبر جائزة في حياته ألا وهي ما تتمتّع به روحه من حب كبير للناس كل الناس. ومن حاشية إلى ذيل للنص إلى جثة وأشلاء مبعثرة ص128 يكون البناء قد كشف ما رصف الكاتب من حجارة على قدر معاني مضمون الرواية، من وصف ومتابعة لحال ذرعان وأبناء وبنات هذه القرية من قرى سورية بما تحمله التسمية من معانٍ وما تشير إليه من دلالات. وهي قرية تكاد تقف حائرة أمام ما شهدته وتشهده من تقلبات، حيث يرى أهلها أرضهم أمام أعينهم لكنهم يظلون عاجزين عن فلاحتها والتنعم بخيراتها، وهل هناك أرض أكثر خصوبة من أرض الجولان، حيث كانت قطعان الماشية والأبقار لا تجد غير الجولان وذرعان مرعى وربيعاً لها.
وها هو محمود المطور من خلال نبشه للتراب يأخذنا إلى رحلة في أعماق النفس البشرية، عندما تبدأ في لحظة صدق ببوح يخلو من أية مداهنة أو رياء أو تملق، فمحمود أمام حالة صدق مختلفة بدرجة حرارتها عن لحظة مشابهة ينهض أمه من نومها الأبدي ليخبرها أنه جلب لها شاهدة لقبرها، ولا ينسى أن يمنّ عليها بذلك لأن كثيرين لم يحظوا بما حظيت به من دفن جثتها في قبر إلى جانب أخيه ناصر وأبيه اللذين استعان بهما ليثبت مصداقية ما كان يفيض به لسانه معاتباً أمه (عليا). وها هو يخاطبها: عليا ما زال قبرك طرياً كما أنت بعد أن أرهقتك السنون وبدلت ملامحك، خطيئتي مثل دمل في القلب سيقتلني قيحه إن بقي، وسيقتلني إن انفجر وسال. خطيئتي لن يمحوها إلا أنت، ليس باليد حيلة صدقيني من منا قادر على ردّ الموت يا امرأة؟ لو كنت أملك ذلك كنت رددته عنك. ويبرّر لها عودته: (ها أنا عائد كي أزرع لك شاهدة وقد أمضيت قبل ذلك عمراً وأنا أزرع الشواهد، فهل أجد يوماً من يزرع لي شاهدة؟).
تنتمي رواية (ذرعان) للأديب محمد الحفري الصادرة هذا العام عن دار تموز ديموزي إلى أدب الحرب وأوجاعها وفجائعها، حيث العبثية والأحقاد والقتل والدمار، وليس فيها غير دوي القنابل والمتفجرات وكيف انعكست مفردات الحرب رسائل تحمل تلك النزعة الحربية.
وهي أيضاً في كل القراءات لها رواية تنتمي إلى الرسالة الإنسانية التي يحملها الأدب عامة والرواية على نحو خاص، فقد فاضت بما حملته من عطف وحنان الأخ على أخيه، وقد أعلن محمود ندمه لأنه حرم أخاه ناصر المريض بالسكري من التهام ما شاء من الطعام حين رآه في ذلك الصباح القاتم قد مدّ يده في الفراغ وكأنه يودّع الحياة ويلوح لأخيه موصياً بأولاده. وهل هناك أعظم من كفالة اليتيم، فكيف بمن جعل أولاد أخيه كأولاده وراح يسعى ليوفر لهم لقمة العيش بعدما غيبّ الموت والديهما؟.
ثم كم حملت هذه الرواية للأديب الحفري من إدانة وتنديد بالحرب ومجرياتها وتداعياتها دون أن تقع في الخطابية أو الاستنسابية، فهي تدين القتل والدمار والخراب والاقتتال ولاسيما العبثية في جوانب كثيرة من هذه الحرب. وإن كان من إضافة لما هي عليه لغة الرواية ونقل الحكاية، فهي في هذه التلقائية المحبّبة للنفس، وكأننا نستمع ونستمتع بحديث وديّ بين متحاورين لا يطيقان التكلف، وهكذا بقينا في تنصت لدقات قلب محمود عند قبر عليا معاتباً. ومما لا شك فيه أن الكاتب استفاد من تقنيات عدة امتلك أدواتها، وأقصد المسرح والدراما والقصة القصيرة، ولم يقصر في توظيف الشاعرية حين يكون القلب نابضاً بالحب يستذكر صفحات جليّة من أيامه.
رياض طبرة