عقلية دونالد ترامب الانقلابية
ريا خوري
ما حدث ويحدث في الولايات المتحدة الأمريكية منذ الاقتراع الرئاسي في 3 تشرين الثاني من العام الماضي 2020، ليس بالوسع استيعابه بيسرٍ وسهولة، لأنه غير مُعتاد، فالتقاليد التي كانت متبعة في حال وجود اعتراضات على الانتخابات في بعض الولايات كانت متبعة ومألوفة، لكن من غير المألوف أن تكون هناك اقتحامات للمقرات الفيدرالية، ولا لأي رئيس منتهية ولايته ويقضي آخر أيامه في البيت الأبيض بعزلةٍ تامة تحت التهديد بالعزل.
هذا هو الرئيس الأمريكي الذي كان مصارعاً، ما زال يصارع طواحين الهواء، فقد كانت الأغلبية الساحقة من استطلاعات الرأي قبل الانتخابات تشير إلى هزيمته أمام المرشح الديمقراطي جو بايدن، وقد تحقّقت استطلاعاتهم المبنية على أسس معرفية بما يريده الشعب الأمريكي، ولم يكن لأيِّ كان أن يتوقَّع أن تتدحرج الأمور نحو الهاوية كما حدث، وازداد الأمر سوءاً يوماً بعد يوم، وخاصة بعد اقتحام مقرّ الكونغرس الأمريكي بطريقة عنيفة جداً، وأصبح يدور في الدوائر الرسمية الأمريكية حديث رسمي في العاصمة واشنطن عن محاولة انقلاب أو تمرد، وازداد الأمر سوءاً عندما بدأت تتعالى الأصوات داخل مكاتب التحقيقات الفيدرالية (إف بي أي) عن ميليشيات مدرَّبة تدريباً خاصاً ومسلَّحة بأسلحة فتَّاكة تخطّط لاقتحام العاصمة الأمريكية واشنطن قبل يوم من تنصيب بايدن.
وبصورة غير مسبوقة في التاريخ السياسي الحديث راح مصطلح (انقلاب) يتمّ تداوله بشكلٍ كثيف من جانب المؤرّخين وكبار الساسة وكبار الخبراء في نظم الانتخابات داخل الولايات المتحدة. ونحن هنا لا نغفل أنه تمّ استخدام كلمة (انقلاب) في الفترة نفسها التي حكم جورج بوش الابن الولايات المتحدة والذي تولَّى الرئاسة عام 2001 عندما وصف عدد كبير من الخبراء السياسيين الأمريكيين، سياسة المحافظين الجدد الذين تقلّدوا مناصب رفيعة في إدارته بـ(انقلاب في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية).
وإذا كان مضمون هذا الانقلاب يركّز على سياسة الولايات المتحدة في الخارج، فإن استخدام الكلمة لوصف المحاولات المتتالية للرئيس ترامب منع إعلان فوز بايدن، كان يركز أساساً على مجمل سمات النظام السياسي في أمريكا. لم تشهد الولايات المتحدة تحدياً صريحاً وصارخاً إلى هذا الحدّ من أنصار مرشح رئاسي أو أقل للتصرف على هذا النحو منذ نهاية الحرب الأهلية، فقد كان تصديق المجمع الانتخابي على فوز أحد المرشحين بمثابة قبول من المنافس الآخر ومؤيديه لهذه النتيجة، وهذا ما دعا العدد الكبير من خبراء السياسة والمؤرخين لاستخدام مصطلح الانقلاب في تركيز شديد على تصرفات ترامب، الذي دعا أنصاره علناً في اللحظات التي سبقت تصديق الكونغرس على فوز بايدن للنزول إلى الشوارع، ومنع قرار فوز بايدن. وقد أعلن صراحةً وبطريقةٍ غير لائقة سياسياً أنه سيقاتل حتى النهاية للبقاء في منصبه، مطالباً أعضاء الكونغرس الجمهوريين برفض النتيجة المعلنة وقلب النتيجة الانتخابية لمصلحته، وهذا ما أضفى على هذه الدعوة الحمقاء في نظر الكثيرين شكل الانقلاب!.
وبالفعل بدأت العديد من الدراسات تصدّر عناوينها بمصطلح “الانقلاب”، ففي بحث تحت عنوان: “هل من الممكن أن يحدث انقلاب في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2021″، كتب الصحافي في صحيفة “نيويورك تايمز” هنريك هيرتزوج متسائلاً عما إذا كان الوقت قد حان لقيام القوات العسكرية بانقلاب، وإن كان عدد غير قليل قد قابل كلماته بسخرية واضحة. كما تناولت صحيفة “واشنطن بوست” تحذيرات صادرة عن دونالد ترامب في الأيام القليلة المتبقية له في السلطة، فقد حذّر هو وحلفاؤه في الكونغرس الأمريكي بأن ترامب شخصياً مهدّد وهو هدف للانقلاب، وهذا ما أثار المزيد من السخرية.
هناك مرة واحدة حدثت في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية نجح فيها انقلاب استخدمت فيه أعمال عنف شديدة اتسمت بالعنصرية، كان ذلك في عام 1898 عندما جرت انتخابات في مدينة ويمنجتون وهي انتخابات محلية، وبدأ منها الحديث عن المزيد من احتمالات فوز السود، بعد أن حُشدت مجموعات من البيض مدعومة من ميليشيات مسلحة ارتكبت أعمال عنف في تلك المدينة. وقد سارت تلك العمليات باتجاهات متعدّدة حتى تمكن البيض المتعصبون من إحباط أي صعود للسود، بعد أن قتلوا نحو 250 من المواطنين الأمريكيين السود، وتهجير أكثر من مئة ألف من الناخبين السود، وتمّ منع تقليد أي مواطن أمريكي أسود أية وظيفة مهمة لمدة 75 عاماً.
يقول المؤرّخ فيدير سيو ليستين مؤلف كتاب “تاريخ مختصر للأكاذيب الفاشية”: “إنَّ أي انقلاب ضد النظام الديمقراطي تتحدّد هويته وطبيعته عندما تلجأ قوى سياسية إلى محاولة الاستئثار بالسلطة والاحتفاظ بها بوسائل غير دستورية، لقد تبيّن من التحقيقات أن الذين حرّضهم ترامب لم يكونوا متظاهرين سلميين، خاصة وأن الشرطة صادرت معظم الأسلحة التي كانت بحوزتهم”.
في مثل هذه الظروف المحفوفة بالمخاطر والمشحونة بالقلق من إمكان حدوث حالات من الهجوم والاشتباكات في أثناء تنصيب جو بايدن، وضع القادة العسكريون الكبار في وزارة الدفاع في حالة تأهب قصوى، وعلى استعداد للتصدي لأي حادثة من شأنها تعكير صفو التنصيب، ومن المحتمل أن يكون الجيش الأمريكي بأعدادٍ كبيرة هو من يقوم بالحماية إضافة إلى جميع الأجهزة الأمنية بهذا الشأن. هذه الخطط تمّ وضعها دون علم البيت الأبيض خوفاً من تدخل دونالد ترامب لتغيير كل تلك الخطط.