“دبابة تحت شجرة عيد الميلاد”.. هل يحيي الأدب ما تقتله السياسة؟
ردحٌ من الزمن والقضية الفلسطينية مركز اهتمام جلّ أدباء فلسطين وبلاد الشام والمعين الذي ينهلون منه موضوعاتهم، التي وثقت وأرّخت لأهم مأساة عرفها القرن الماضي عند اقتلاع شعب من أرضه وتهجيره في مختلف الأصقاع. لكن بريق هذه القضية ومكانتها الأدبية والسياسية بدأ يجنح نحو التلاشي التدريجي، مع تدافع العديد من الدول العربية للتطبيع مع المحتل والتخلي عن القضية المركزية مجاناً، إلى جانب التقادم الزمني الذي أخذ معه أجيال التغريبة مع ما حملوه من حنين وأمل بالعودة، هذا الأمل الذي هدأت ثورته مع تلك الأجيال اللاحقة التي لم تعرف من فلسطين سوى شذرات حكايات من هنا وهناك.
وزادت الفجوة اتساعاً بين القضية المركزية والجيل الحالي من أدباء مع رحيل رواد أدب القضية الواحد تلو الآخر، حتى لم يبقَ منهم سوى قلة قليلة، ويمكن اعتبار الروائي إبراهيم نصر الله صاحب الملهاة الفلسطينية، أحد أبرز هؤلاء الذين مازالت تغريبة فلسطين تسكن عقولهم ووجدانهم، بل ويتربع في صدارة تصنيف من أرّخ ووثق حوادث تلك المأساة من بداياتها حتى الآن من مختلف جوانبها، السياسية والاجتماعية والديمغرافية، ولاسيما في ثلاثية الأجراس وجزئها الأخير “دبابة تحت شجرة عيد الميلاد” الصادرة العام الماضي ونال عنها جائزة كتارا للرواية العربية، وفيه يعود بنا إلى فترة زمنية طويلة تمتد إلى أكثر من سبعين عاماً، تأخذنا إلى بدايات القرن الماضي مستعيناً بوثائق التاريخ لبناء عالمه الحكائي بشخوصه وأمكنته وزمنه وفق حبكة درامية متداخلة الأنساق السردية.
يبدأ بتمهيد تاريخي تعريفي بجذور شخوصه وارتباطهم بالمكان وتفاعلهم مع الأحداث، حيث نرصد خطين متوازيين لا يلتقيان وفق قانون الهندسة الرياضية فكرياً وعاطفياً، لكنهما يلتقيان مكانياً، هو خط عائلة اسكندر ومرتا، اسكندر الذي عاد من جنوب روسيا إلى فلسطين مشياً على الأقدام يحمل معه غرسة دراق ستنبت حقلاً واسعاً فيما بعد في بلدته بيت ساحور. اسكندر الذي لم يكن يتوقع أن يعود من حرب جنّده فيها العثمانيون ليموت فيها، يعود ليتزوج من مرتا ابنة خالته التي كان شرطها لقبول الزواج إهداءها بيانو، تلك الآلة الجميلة التي أصبح لها دور كبير في تعويد أبناء البلدة حب الموسيقا.
هاتان الشخصيتان كانتا منطلقاً لجيل القضية التي بدأت بوادرها تتبلور مع ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين بمساعدة الانكليز.
الخط الآخر هو عائلة موشيه اليهودي المهاجر من ألمانيا بمهمة التقاط صور لمصلحة وكالات يهودية سياسية ودعائية عالمية غايتها تزوير الحقائق عن أرض فلسطين وتشجيع الهجرة إليها، انطلاقاً من إيمان بأهمية الصورة في التأثير، تلك الأهمية التي دفعت موشيه لقتل المصورة الفلسطينية كريمة عبود التي كانت تصوّر ما يدحض دعايتهم، وهذه كانت وصية والد موشيه وهو يودّعه في ميناء هامبورغ: “لقد قيل في هذا الاختراع الذي سُمّي الكاميرا بأنه أكبر سلطة لامتلاك الزمان، وأظنك تعرف هذا تماماً، لكننا نحتاج منك شيئاً أكبر من هذا، نريدك أن تحولها إلى أكبر سلطة لامتلاك المكان”. لكن موشيه الذي لم يبرع في التقاط الصور ترك المهمة لصديقه ليفي، الذي يرى: “.. إن الصورة ستدفع ألف يهودي في روسيا وألمانيا وأوروبا للهجرة إلى فلسطين، في حين أن قتل فلسطيني برصاصة لن يحقق نتيجة كهذه..”، لكن موشيه يفضّل البندقية ويورثها لابنه ناحوم الذي يصبح مسؤولاً أمنياً عن مدينة بيت ساحور المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية، وفيها يلتقي خطا عائلة موشيه كنموذج لمحتل يلجأ إلى كل وسائل الإجرام والإرهاب لتثبيت سلطته وفرضها على السكان، وبين عائلة اسكندر كنموذج لشعب يرفض الإذعان ويتمسّك بحقه بالحياة فوق أرضه وأرض آبائه وأجداده.
تعتبر الرواية حكاية أجيال متعاقبة توارثت حب الأرض والتضحية من أجلها، وتحمُّل كل قسوة المحتل والإصرار على البقاء، يفرد فيها الحيّز الأكبر لأحداث الانتفاضة التي اندلعت في ثمانينيات القرن الماضي وكانت نقطة تحوّل مصيرية في تاريخ القضية.
الأجمل في رواية “دبابة تحت شجرة الميلاد” أنها تجمع الطيف الفلسطيني المجرد من أي اصطفاف ديني وقبلي، وحدت المقاومة تحت علم واحد، وقلب واحد، وروح تتسامى عن تلك الأيديولوجيات المصطنعة التي فرزتها، فيما بعد، سياسات وخطط انهزامية هدامة، لا تعرف عن المقاومة والنضال سوى شعارات فضفاضة لا تسمن أو تغني من جوع، في حين الذي ناضل واستشهد هو ذاك الفدائي الذي كان دافعه عودة فلسطين بعيداً عن التوظيفات الملغومة والانتهازية.
تقاسم سكان بيت ساحور لقمة الخبز كما تقاسموا الجوع والألم والمعاناة، واجهوا الحصار والقمع بقلب واحد ينبض بالمحبة والألفة والإيمان بالمصير المشترك..
لا يكتفي صاحب الملهاة الفلسطينية، في الجزء الثالث من الأجراس، بسرد وقائع وتسمية الأشياء بمسمياتها دون مواربة أو ترميز، لكنه يوجّه رسائل لا تخلو من العبر حيناً والعتب أحيان أخرى، كأن يقول على لسان اسكندر: “.. يامرتا ياحبيبتي حين يقايض الثوار ثورتهم بالوعود يخسرون كل شيء”.
عالم إبراهيم نصر الله الروائي موسوم بالحب وذوبان الفرد بالجماعة كحالة ضرورية لتحقيق النصر والوصول إلى الغاية المطلوبة، وهو ما كان حريصاً على إبرازه مجرداً من كل تعصب ديني أو قبلي، يرى فيه نوعاً من العلاقات الإنسانية المثالية التي من خلالها نضع عربة التحرير والتطوير على السكة الصحيحة والثابتة.
آصف إبراهيم