حلب الثقافة ما بعد الحرب وما بعد كورونا.. شيء من عافية مستعادة!!

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

لم تتأثر أعماق سورية بالأزمات والحروب التي مرت عليها، تماماً كما لن تتأثر اليوم بعد هذه الحرب الكونية، لأنّ حضارتها جذور وجذوع، وأغصانها تمتد لتغطي الأزمنة والأمكنة، ولها على كل ضوء إنساني معرفي ظلال وأدلة حاضرة دائماً، منها استمرار الحضور الثقافي والفني بقوة وفاعلية، على صعيد الفعاليات الأدبية والعلمية والفنية والمعارض وورشات العمل، إضافة إلى استمرارية إصدار الكتب والدوريات من مجلات وصحف، وإضافة الجديد دائماً في هذا الفضاء المتسع الشامل للجميع، المرفرف بأجنحته بين رفوف المكتبات المختلفة، تمثيلاً لا حصراً: المكتبة الوطنية، اتحاد الكتاب العرب، المراكز الثقافية، مكتبة الجامعة، ومكتبات المدارس.

والمتابع للمشهد الثقافي في حلب، سيلاحظ هذه الاستمرارية بتفاوتاتها المختلفة، وخطها البياني المتأرجح بين الصعود والهبوط تبعاً للظروف المتنوعة للبنى الحياتية الحالية الضاغطة بمختلف المجالات.

ولذلك، لا بد من المكاشفة والنقد، و”الاستئناس”، ليكون المشهد فاعلاً ومنجزاً لأهدافه وغاياته، ولابد من استثمار اللحظة السالبة وتحويلها إلى موجبة وإيجابية، تشرق من خلال العقول والمخيلة وتستمر في البناء والإعمار الداخلي للإنسان وأعماقه، وللمكان وتطوراته، ما ينتج حالة أكثر وعياً ونضجاً حياتياً وإبداعياً، وأكثر ملاءمة للعصر وأساليبه.

كما لا بد من التسارع في التطوير الأدائي والنوعي، وهذا يحتمل العديد من الاقتراحات والحلول، أهمها تأصيل الحداثة وتحديث الأصالة، والتجديد سواء من حيث النص الثقافي والفني، أو من حيث تفعيل الإجراءات الابتكارية في تقديم الفعاليات مثل توظيف الأماكن العامة في إقامة الأمسيات والمعارض الفنية ومعارض الكتب، وتخصيص أنشطة تتم في المدارس والجامعات، إضافة إلى توظيف الوسائط التقنية الحديثة والوسائل التكنولوجية الاجتماعية، والمزيد من الاهتمام بالجيل الشاب وطاقاته ومواهبه، والابتعاد عن “الشللية والشخصانية” في البنية الثقافية والفنية، والاقتراب أكثر من التعاون بين الجهات المختصة، والاقتراب أكثر من المنتوج الإبداعي لتحقيق الغاية الأعلى: “النص لا الشخص”، و”الإبداع لا التبعية والاتّباع”.

 

الألم الصائت والأمل الصامت

عن هذا المشهد وتداعياته وتأثيراته المختلفة وطموحاته، تساءلت “البعث الأسبوعية”: ما ترائياتك للمشهد الثقافي الفني في حلب في مرحلة إعادة الإعمار وما بعدها؟ ما توقعاتك؟ واقتراحاتك؟

وهنا، ظهر الجانب المظلم من بعض الإجابات عاكساً السلبية المتراكمة في نفوس الأدباء نتيجة الضغط الحياتي اليومي الذي جعل البعض يعتذر مجيباً: “معتزل عن المشهد منذ بدأت الحرب”، أو يخبرنا بأن لديه حالة مرضية عائلية، أو يلمح إلى أن الواقع يحتاج إلى مزيد من التأقلم لكي نستعيد ما مضى ونفكر بما سيأتي.

ولاشك أننا نستكشف، من خلال بعض الإجابات الغائبة، أو “الإجابات بلا إجابات”، ما آلت إليه الديناميكية الثقافية، وكيف تحولت إلى حالة نفسية يشوبها الحزن المعبّر عن الألم الصائت والأمل الصامت. ولكنْ، وضمن هذه التموجات والأمواج، لا بد وأن ينبثق الازدهار في المستقبل، وهذا ما نلمحه في إجابات البعض.

 

العمل الحضاري

“حلب الحضارة، حلب التاريخ، تنفض غبار الإرهاب، وقد عاد الألق الثقافي الى عاصمة الثقافة في سورية”.. هكذا بدأ الأديب جابر الساجور، مدير الثقافة، ليسترسل: “المشهد الثقافي، اليوم، يبدو متعثراً رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الوزارة للنهوض بالواقع الثقافي ورفع الذائقة الفنية لدى عموم الجمهور بما يتناسب مع التطور المدني الكبير الذي يشهده العالم”.

وأردفَ: “إصرارنا على العمل إضافة للجهود المبذولة للحفاظ على الإرث الحضاري الكبير الذي تتميز به سورية، وتراثها المادي واللا المادي، يساعدنا على التغلب على أسباب التعثر العائدة إلى ظروف الحرب من تدمير ممنهج لكافة المقرات والمواقع الثقافية والتراثية”. وأكد: “اليوم، تبذل جهود استثنائية لإعادة تفعيل العمل الثقافي بكافة مفاصله، فسورية مهد الحضارات وعرفت، عبر قرون طويلة، عدداً كبيراً من الأعلام والقامات الفكرية والفنية والأدبية”. ‏‫واختتم الساجور: دورنا اليوم أن نتعاون كمؤسسات وطنية إعلامية ثقافية وجمعيات المجتمع المحلي لتحقيق أفضل استثمار ثقافي، كما وجه سيد البلاد في لقائه الأخير مع الأدباء”.

 

الإدارة الثقافية

بيانكا ماضية، الكاتبة الإعلامية، ورئيسة القسم الثقافي في صحيفة “الجماهير”: “كانت إشاراتنا دائماً تتوجه نحو إمكانية النهوض بالواقع الثقافي والفني في مدينة حلب ليكون بمستوى هذه المدينة التاريخي والحضاري والثقافي، ولكن المشكلة تكمن في الإدارات ونوعية التفكير ونوعية الاهتمامات الثقافية، إذ مضى على التحرير أربعة أعوام، ولم تنهض حلب ثقافياً كما يجب أن يكون لها النهوض”.

وتابعت: “الجهود التي تبذل في هذا الشأن قليلة نوعاً ما، إذ بالمقارنة بين ما كانت عليه المدينة قبل الحرب وبعدها يشي أن هناك نقاطَ ضعف يجب أن تتحول إلى نقاط قوة، وأولها ما يتعلق بالإدارة الثقافية بشكل عام.. وما تم بذله وتقديمه مشكورة عليه جميع الجهات الثقافية، لكن حلب، مدينة الفن والأدب والصحافة والتاريخ العريق، بحاجة إلى جهود أكبر لتعلن عن نفسها حقيقة أنها عاصمة الثقافة السورية”.

 

وعي وأنشطة وأعضاء جدد

وبإيجابية، قال د. أحمد زياد محبك، رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب: “خلال الحرب، لم يتوقف الأدباء عن العطاء، ولم تتوقف المؤسسات الثقافية عن إقامة أنشطتها، وكان الجمهور يتابع النشاط بشوق وإرادة. انتقلنا إلى مرحلة البناء والإعمار، واستمر النشاط بوتيرة أعلى، ونشاط أكبر وأوسع، فالاتحاد مفتوح للأدباء جميعاً من أعضاء وأصدقاء، وكان العطاء على مستوى جيد من الأداء الفكري والفني”. وتابع: عندما اتخذت الإجراءات الوقائية لحماية الوطن من وباء كورونا، بقينا على تواصل مع الأدباء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد توقف النشاط لنحو شهرين تقريباً، ثم عدنا وفق برنامج فرع حلب، وقد جرى استقبال عدد غير قليل من طلبات الانتساب إلى الاتحاد. وفي هذه المرحلة بالذات، تم قبول أعضاء جدد، هم رافد قوي لهذه المؤسسة الثقافية. ومن المعروف أن النشاط الثقافي لاتحاد الكتاب يتوقف في الصيف، ولكن التواصل مع الأدباء يبقى مستمراً، ويبقى الاتحاد يقوم بدوره الثقافي والأدبي، عبر دورياته”.

 

نصنع جسوراً لأرواحنا ونراقص الطيور

الكاتبة سهى جودت، رئيسة مجلس إدارة جمعية أصدقاء اللغة العربية: “في ظل الأوضاع الراهنة، ومع جائحة كورونا التي أصابت العالم بالشلل الاقتصادي، يصعب التكهن بما ستؤول إليه الأمور في سورية التي حاربت على مدار 9 سنوات ضد أعتى القوى الاستعمارية”. وأكملت: “قبل الجائحة، كانت الحياة تنشط، كما أن المعامل عادت إلى العمل والإنتاج، والبعض عاد إلى بيته، والمحال التجارية استعادت شيئاً من عافيتها، ومنابرنا الثقافية لم تتوقف.. كل من موقعه يعمل بإرادة صلبة وقلب من حديد، وكان من المتوقع أن يعود الإعمار سريعاً، لكن كل شيء شبه متوقف، وحتى نحن كجمعية ثقافية لها شعبيتها الواسعة، ولم تتوقف أثناء الحرب عن تنفيذ نشاطاتها الثقافية والاجتماعية الفلسفية التربوية، احتكمنا اليوم لمصير العالم وما تمليه علينا النصائح الطبية من تحذيرات واحتياطات يجب اتباعها”.

وأضافت: لن نفقد الأمل، لأن من عاش في حلب أيام الحصار وعانى من انقطاع المياه والكهرباء، يعرف قدرة هذا الشعب على الصمود والتحدي، وكيف أثبت للعالم أجمع أنه يصنع من السحاب بساتين قطن”. ورأت أن السؤال الصعب: “ما مقترحاتك؟”، وأكملت: “لكن، عن أي شيء سأطلق مقترحاً، ونحن ما زلنا في خضم الخوف والتخبط من كورونا؟ وفي خضم الغلاء المادي الفاحش نحترق ونتلظى من ارتفاع الأسعار بسبب القانون الظالم – “قانون قيصر” – ومحاصرتهم لنا؟ هم، بكل تأكيد، لا يقاتلون حكومة، بل يقتلون شعباً، لذا سيكون مقترحي حين تنتهي أزمة كورونا أن نبني أنا وأنت مع ثلة من الطيبين جسوراً للمحبة كي نمضي عليها ونحن نراقص الطيور”.