مجلة البعث الأسبوعية

وسائل الإعلام تدعم الانفصال.. الانتخابات القادمة لن تكون نهاية أمريكا لكنها قد تكون بداية النهاية!!

“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر

أصبح من الواضح بشكل متزايد حتى لوسائل الإعلام التقليدية أن من المرجح ألا تعود الأمور إلى “طبيعتها” بعد انتخابات 2020 في الولايات المتحدة الأمريكية. وبغض النظر عمن سيفوز، دونالد ترامب أم جو بايدن، فإن من المحتمل أن يعتبر الجانب الخاسر أن الفريق الفائز قد حقق انتصاره باستخدام حيل قذرة، أو عبر التدخل الأجنبي، أو من خلال دعاية لا هوادة فيهاقدمتها المنصات الإخبارية المنحازة، والمتحيزة بشدة.

ولكن، أين سيذهب المرء إذا كان نصف الأمريكيين تقريباً سيعتبرون الرئيس الفائز غير شرعي، خاصة وأن الاستطلاعات لا تهدأ بشأن هذه المشكلة؟وكما ذكرت صحيفة “بوليتيكو”، فإن نسبة الأمريكيين الذين يبررون استخدام العنف “لتحقيق أهداف سياسية” قد تضاعفت أربع مرات منذ العام 2017، لدى كل من الجمهوريين والديمقراطيين علىالسواء. وبعد كل شيء، فقد بلغ الاحتجاج السياسي ذروته منذ أن أعلنت هيلاري كلينتون أن جزءاً كبيراً من الأمريكيين يشكلون “سلة من البائسين”. وربما ليس منذ سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر – عندما وصف الجمهوريون كلاًمن الكاثوليك والجنوبيين والإيرلنديين (المكونات الأساسية للحزب الديمقراطي) بأنهم جواسيس وخونة وسكارى – ونصف أمريكا يحتقر النصف الآخر، ففي وقت مبكر من العام 2017، عندما سُئلوا عن فرص نشوب حرب أهلية أمريكية أخرى، أكد حوالي ثلث خبراء السياسة الخارجية، الذين شملهم الاستطلاع، إن ذلك ممكن. ولربما لن يكون مثيراً للصدمة، إذن، قراءة مقالات تشير إلى إمكانية عجز الولايات المتحدة عن الاستمرار في شكلها الحالي، علاوة علىأنه يتم الترويج لهذا الرأي بشكل متزايد من خارج الجماعات المحافظة والليبرالية التقليدية التي لطالما دافعت عن اللامركزية والحكومات المحلية.

في 18 أيلول، على سبيل المثال، تساءل ستيف تشابمان في صحيفة “شيكاغو تريبيون”: “هل تستطيع الولايات المتحدة النجاة من هذه الانتخابات؟. خلال القرن الماضي، كانت الإجابة التي قدمها معظم الصحفيين العاديين هي: نعم، ولطالما كانت السردية المعتادةكالتالي: “بالطبع ستستمر أمريكا لقرون قادمة! نحن الأمريكيون سادة التسويات.. سوف ندرك أننا جميعاً في قاربواحد، ونتحد معاً”. لكن تشابمان يكتب الآن: “مفهوم الانقسام أمريكي مثل الرابع من تموز (يوم الاستقلال)،فقد جاءت ذروة مشاعر الانفصال بعد انتخاب أبراهام لنكولن، عام 1860، ما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية، حيث فكّرتولاية نيو إنغلاند بمغادرة الاتحاد خلال حرب عام 1812.. لقد تآكلت الروابط التي تجمع الأمريكيين، وانتخابات تشرين الثاني المقبل قد تتسبب بأضرار إضافية،ولكن ما من دولةتدوم إلى الأبد، ولن تكون دولتنا الأولى في ذلك،وهذه الانتخابات لن تكون نهاية الولايات المتحدة، لكنها قد تكون بداية النهاية!”.

علاوة على ذلك، يلاحظ تشابمان أنه في حين سيستمر الكثيرون في رؤية الولايات المتحدة دولة قوية، مرجحين أن تستمر لأجل غير مسمى، فإن مثل هذه الافتراضات قد تكون غير حكيمة بالنظر إلى واقع التجربة في أماكن أخرى. ففي عام 1970، ألّف المنشق الروسي أندريه أمالريك كتاباً بعنوان (هل سينجو الاتحاد السوفييتي حتى عام 1984؟). في ذلك الوقت، بدت فكرة تفكك قوة عظمى عملاقة، وكأنها محض خيال، لكنها تحققت في النهاية.. لقد تفككت دول مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا أيضاً، وبريطانيا غادرت الاتحاد الأوروبي، وقد تُدفع اسكتلندا لمغادرة بريطانيا، وسيكون من الحماقة الاعتقاد بأن الولايات المتحدة محصنة ضد ذلك.

في أيلول الفائت، وفي صحيفة “فيلادلفيا إنكويرر”، أبدى تشاك بونفيج شكوكه بأن النهاية ربما اقتربت:لقد مرت البلاد بفترات عديدة من الصراع في زمننا: اغتيالات، ركود، إلغاء الفصل العنصري، تضخم، أزمة غاز، ووترغيت، فوضى معلقة، أزمة الإيدز، 11/9. ولربما تكون دورة الأخبار على مدار 24 ساعة، أو الأخبار المتجددة على وسائل التواصل الاجتماعي، هي التي تجعل المشهد يبدو قاتماً للغاية، لكنني لا أتذكر أننا كنا منقسمين إلى هذا الحد”.

لا أحد في أمريكا يبدو سعيداً اليوم: اليمين غاضب، واليسار يائس، ووضع أمريكايذكّر بأولئكالمتزوجين الذين يحاولون البقاء معاً من أجل “الأطفال”، ولكن الأمر ينتهي بهم بجعل كل من حولهم بائسين. ولربما حان الوقت للانفصال، فما الفائدة من امتلاك “أعظم دولة في العالم” إذا لم يكن أي من مواطنيها يحبها بالفعل؟

إضافة إلى ذلك، تم نقل الجدل حول الانفصال إلى العلن من قبل ريتشارد كريتنر وكتابه (فككوه: الانفصال والانقسام والتاريخ السري لاتحاد أمريكا غير الكامل). يشير كريتنر -الذي يكتب في المجلة اليسارية “ذي ناشن” – إلى أن الولايات المتحدة لم تكن أبداً موحدة،وأن الانفصال والانقسام قد يكونان تكتيكان ضروريان لتحقيق الإصلاحات التي يرغباليسار برؤيتها. وفي مقابلة مع المجلة، ناقش كريتنر كيف بدأ يفكر في الانفصال كحل جدي:ماذا لو انقسمت الولايات المتحدة؟ هل سيكون هذا سيئاً؟ هلسيكون من الأسهل تفعيل السياسات والبرامج التقدمية التي أردت أن أراها مطبقةفي كيان أصغر من الايات متحدة تضم 330 مليون نسمة، وهناك الحاجة دائماً لإقناعأشخاص ذوي مواقف واهتمامات مختلفة جداً؟ ومن خلال هذا السؤال، كنت أشعر بالفضول فيما إذا كان شخص ما في التاريخ الأمريكي فضل الانفصال لأسباب نبيلة أو تقدمية.. وسرعان ما وجدت الإجابة: نعم، كان هناك دعاة لإلغاء الرق الذين عارضوا العبودية بشدة، وأرادواانفصال الولايات الشمالية عن الاتحاد، في أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر، كوسيلة للاحتجاج على العبودية بل وتقويضها.

يمضي كريتنر في ملاحظة أن الانفصال كان منذ فترة طويلة في طليعة الإيديولوجية السياسية الأمريكية. ويعود ذك بالطبع إلى النزعة النفصاليةالتي ميّزت الثورة الأمريكية، والتي يمكن العثور عليها أيضاً في حركة الانفصال التي فضلها دعاة إلغاء عقوبة الإعدام، وفي مساعي نيوإنغلاند الانفصالية خلال حرب عام 1812.

كريتنر على حق، لطالما فضل العديد من الأمريكيين الانفصال، وليس فقط المدافعون عن الكونفدرالية القديمة. ففي الأيام الأولى لانفصال الجنوب، كان العديد من الأمريكيين – بمن فيهم أولئك الذين لم يحبوا الجنوب أو العبودية – راضين عن سقوط الكونفدرالية. وفي نيويورك، أعلن جورج تمبلتون سترونغ، على سبيل المثال، في عام 1861، أن “الانفصاليين [الولايات الجنوبية] أصيبوا بالمرض بعد العلاج الفوري، ولن يصيب فيروسهم نظامنا بعد الآن”. وفي العام نفسه، ناقش سكان نيويورك الآخرون بجدية مغادرة الاتحاد والتحول إلى دولة مدنبة مكرسة للتجارة الحرة. وفي عام 1876، كادت المعركة حول من سيفوز في الانتخابات الرئاسية تحدث انقساماً وطنياً، حيث كان حاكم نيويورك المؤيد للديمقراطية “يعد بمقاومة الدولة” التي يغتصبها الجمهوريون. ولم يكن مؤسسو أمريكا بالضرورة معارضين للانقسام، فقد عبّر توماس جيفرسون عن آرائه الاحتجاجية، حتى عندما كان رئيساً في منصبه، وقد أوضح في رسالة له، عام 1803، إلى جون بريكنريدج أنه إذا سعت الولايات المستقبلية لإقليم لويزيانا إلى الانفصال، فهذا أمر جيد بالنسبة له:[إذا] كان ينبغي للانفصال أن يصبح المصلحة الكبرى لتلك الولايات، وإذا كانت سعادتها يجب أن تعتمد عليه بقوة بحيث يدفعها إلى المغادرة، فلماذا تخشى ولايات الأطلسي ذلك؟”.في عام 1804، كتب جيفرسون إلى جوزيف بريستلي: “سواء بقينا في كونفدرالية واحدة، أو شكلنا اتحادات في الأطلسي والميسيسيبي، أعتقد أنذلك ليس مهماً”.

 

نحو اللامركزية؟!

في هذه المرحلة، يقترح البعض استراتيجية واحدة فقط يمكنها منع الانزلاق المستمر نحو الصراع والانفصال و”ربما” العنف، ألا وهي لا مركزية السلطة السياسية، وهم يرون أنه بفضل عقود من المركزية المتزايدة في واشنطن العاصمة، أصبحت السياسة الأمريكية تصنع بشكل متزايد من قبل الحكومة الفيدرالية، وليس من قبل سلطات الولايات والسلطات المحلية. وهذا يعني أن الحياة الأمريكية تُحكم أكثر فأكثر من قبل سياسات على مقاس واحد يناسب الجميع ويضعها سياسيون بعيدون في العاصمة. وهكذا، مع كل انتخابات تمر، تصبح المخاطر أكبر حيث سيتم تحديد سياسة الأسلحة، والرعاية الصحية، وتخفيف حدة الفقر، والإجهاض، والحرب على المخدرات، والتعليم، وغير ذلك، من قبل الحزب الذي يفوز في العاصمة، وليس في الولاية، أو في مجلس المدينة. وبعبارة أخرى، سيتم وضع القوانين التي تحكم ولاية ما من قبل سياسيين وقضاة من أماكن أخرى تماماً، وسيكون هؤلاء السياسيون البعيدون أكثر اهتماماً باحتياجات وأيديولوجية حزبهم، وليس بالاحتياجات المحددة للولاية التي يعيشون فيها. ومن الطبيعي أنه عندما تصبح حكومات الولايات مشحونة بهذه الطريقة، قد يبدأكثيرون في التفكير بتجاوز قدرة الحكومة المركزية. ولكن ما لم يغير الأمريكيون موقفهم ويشرعوا في تطبيق لامركزية سياسية، فإن من المتوقعتزايد عدم الرغبة في قبول نتائج الانتخابات الوطنية ومقاومة الحكومة الفيدرالية عامة، أما ما يستتبعه ذلك فقد لا يكون ساراً البتة.