دراساتصحيفة البعث

سبعة وعشرون عاماً على مجزرة الحرم الإبراهيمي

د. معن منيف سليمان

سبعة وعشرون عاماً مضت على مجزرة الحرم الإبراهيمي، ومازالت المجزرة ماثلة في البلدة القديمة بالخليل، حيث لا ينسى أحرار العرب شهداءهم الذين ارتقوا في الخامس والعشرين من شباط عام 1994. ففي هذا اليوم استشهد وجرح العشرات من المصلين الآمنين، عندما فتح أحد المستوطنين الصهاينة وأكثرهم تطرفاً “باروخ غولدشتاين” النار عبر بندقيته الآلية صوب المصلين وهم سجداً في صلاة الفجر، في مجزرة وحشية من الصعب أن تخرج من الذاكرة العربية والفلسطينية.

كانت مدينة الخليل من ضمن المدن الواقعة تحت نير الاحتلال الصهيوني بعد نكسة حزيران، وكانت هذه المدينة ذات كثافة سكانية عالية، فعمدت السلطات الصهيونية إلى وضع خنجر داخل قلب هذه المدينة الضخمة، ممثلاً في مستوطنة “كريات أربع”، ويقدّر عدد سكانها بـ أربعمائة مستوطن صهيوني. والمستوطنات تكون عادة بؤراً للإرهاب الصهيوني، ومدارس لزرع الكراهية والبغض في قلوب الصهاينة ضدّ الناس عامة، ومن هذه البؤر تخرّج المجرم “غولدشتاين”.

المجرم غولدشتاين هو أمريكي الأصل وكان يعمل في أمريكا طبيباً، فترك ذلك كله وهاجر إلى الكيان الصهيوني، وأقام في مستوطنة كريات أربع، وكان قد تتلمذ في مدارس الإرهاب الصهيوني على أيدي متخصّصين في الإرهاب من حركة “كاخ” الإرهابية، وكان معروفاً لدى المصلين الفلسطينيين، حيث كانوا في كثير من الأوقات يشاهدونه وهو يتبختر أمام المصلين الداخلين والخارجين إلى الحرم الإبراهيمي. وكان هذا المجرم قد أصرّ على قتل أكبر عدد من المصلين وأعدّ الخطط لذلك، وكان هدفه الوحيد هو اقتلاع الوجود الفلسطيني من البلدة القديمة في الخليل.

رأى المجرم غولدشتاين أن أفضل زمان ومكان يوقع فيه أكبر عدد من الضحايا، هما شهر رمضان وفي بيت من بيوت الله، لكثرة اجتماع الناس للصلاة في هذه الأيام، واتفق المجرم غولدشتاين مع بعض جنود الاحتلال على أن يمدوه بالسلاح اللازم لتنفيذ تلك المجزرة، مع توفير الحماية له من الخلف، وبالفعل في صلاة الفجر يوم الجمعة 15 رمضان سنة 1414هـ الموافق 25 شباط عام 1994م، دخل المسجد الإبراهيمي والناس وقت الصلاة، وقد وقف خلف أحد أعمدة المسجد، وانتظر حتى سجد المصلون وفتح نيران سلاحه الرشاش على المصلين وهم سجود، فيما قام آخرون بمساعدته في تعبئة الذخيرة التي احتوت رصاص “دمدم” المتفجر، واخترقت شظايا القنابل والرصاص رؤوس المصلين ورقابهم وظهورهم، وراح ضحية المجزرة 29 مصلياً في خير البقاع وخير الشهور وخير الصلوات، وأصاب العشرات بجروح من بين (500) مصلٍّ كانوا يتعبّدون في الحرم الإبراهيمي، واستطاع باقي المصلين أن يفتكوا بباروخ غولدشتاين قبل أن يهرب بجريمته البشعة.

وعند تنفيذ المذبحة، قام جنود الاحتلال الصهيوني الموجودون في الحرم بإغلاق أبواب المسجد لمنع المصلين من الهرب، كما منعوا القادمين من خارج الحرم من الوصول إلى ساحته لإنقاذ الجرحى، وفي وقت لاحق استشهد آخرون برصاص قوات الاحتلال خارج المسجد وفي أثناء تشييع شهداء المسجد، وقد راح ضحية المجزرة نحو 50 شهيداً قتل 29 منهم داخل المسجد، وبعدها أطلق الجنود الصهاينة والمستوطنون الرصاص الحيّ على المظاهرات الفلسطينية، وفي غضون أقل من 24 ساعة على المذبحة سقط 53 شهيداً فلسطينياً أيضاً في مناطق متفرقة، ومنها الخليل نفسها.

وبعد تنفيذه للمجزرة دفن هذا المجرم في مكان قريب من مستوطنة كريات أربع، ولا يزال يعامله المستوطنون على أنه قديس لأنه أحرز إنجازاً غير مسبوقٍ بقتل العشرات من الفلسطينيين بصورة شخصية، وخصّص الكيان الصهيوني عدداً من جنود حرس الشرف الذين يؤدون له التحية العسكرية كل صباح وإلى يومنا هذا.

لقد لاقت مذبحة الحرم الإبراهيمي تأييداً من الغالبية العظمى في الكيان الصهيوني، وعندما سئل الحاخام اليهودي “موشي ليفنغر” عما إذا كان يشعر بالأسف على من قتلهم غولدشتاين، ردَّ قائلاً: “إن مقتل العربي يؤسفني بالقدر الذي يؤسفني مقتل ذبابة”.

ولما هاجت البلاد والشعوب العربية وقامت المظاهرات في شتى أنحاء البلاد، تذرّع الكيان الصهيوني بأن “باروخ غولدشتاين” هذا كان مجنوناً يعالج نفسياً وغير مسؤول عن أفعاله!. وللعمل على تهدئة الوضع، عيّنت حكومة الإرهاب الصهيونية لجنة لتقصي الحقائق أطلق عليها اسم لجنة (شمغار)، وقد ضمّت عدداً من الشخصيات الصهيونية ومؤسسات أخرى، وقد خرجت اللجنة بعد عدة أشهر على تشكيلها بقرارات هزيلة تدين الضحية، وبعد إغلاق البلدة القديمة في الخليل لأكثر من ستة أشهر تمّ تقسيم الحرم الإبراهيمي إلى قسمين، يسيطر اليهود فيه على القسم الأكبر فيما يخصّص جزء منه للمسلمين، ويستخدم المستوطنون المسجد بكامله خلال الأعياد الصهيونية ولا يسمح فيها برفع الآذان في الحرم أو دخول المصلين.

ويؤمن كل مصلٍّ حضر الصلاة في ذلك اليوم أن الخطة كانت مبيّتة، وأن قوات الاحتلال كانت متورطة في المجزرة. وقد أكد شهود عيان نجوا من المجزرة أن أعداد الجنود الذين كانوا للحراسة قلّت بشكل ملحوظ، فيما كان المتطرف غولدشتاين يلبس بزة عسكرية، علماً أنه كان جندي احتياط ولم يكن جندياً عاملاً على الحراسة.

يقول المواطن المقعد محمد أبو الحلاوة وهو أحد معاقي المجزرة: “لا يمكن إعفاء قوات الاحتلال من المسؤولية، عندما قام غولدشتاين بإطلاق النار على المصلين هرب المصلون باتجاه باب المسجد حيث وجدوه مغلقاً، علماً أنه لم يغلق من قبل في أثناء أداء الصلاة بتاتاً، وعندما توالت أصوات المصلين بالنجدة كانت قوات الاحتلال تمنع المواطنين الفلسطينيين من التوجّه إلى داخل الحرم للقيام بإنقاذ المصلين”.

ثمة أمر آخر وهو أن المستوطنين كانوا دوماً يهدّدون المصلين وعلى مسمع من الجنود الصهاينة قائلين: “سوف نقتلكم وسوف ترون ما سنفعل”. ويتساءل الكثير ممن نجوا من المجزرة كيف يمكن لشخص واحد أن يقتل هذا العدد من غضون دقائق معدودة، وكيف يستطيع شخص مثله أن يحمل كل هذه الذخيرة داخل الحرم دون مشاهدة الجنود أو علمهم؟. ويضيف الشهود أن جنوداً آخرين كانوا يمدّون الإرهابي “غولدشتاين” بالذخيرة، ولم يفارقوه إلا في اللحظة التي هجم فيها المصلون عليه وقتلوه.

إن المجازر المنظمة من قبل الصهاينة ضدّ أهلنا في فلسطين، أبرز عنوان للتوجيهات الصهيونية الإسرائيلية، لتكون النموذج العملي والدرس التطبيقي لما ورد في الفكر الصهيوني من وحشية وهمجية لحمل العرب على الخروج من منازلهم وترحيلهم، فارتكبوا مئات المجازر الجماعية التي أظهرت بجلاء الكراهية العرقية المتأصلة في نفوس اليهود الصهاينة تجاه العرب والمسلمين.