الخيال الجامح بين العلم والأدب
عندما أصدر الكاتب الأمريكي كليف كارتميل (1908-1964) روايته “الموعد النهائي” عام 1944 والتي يقدّم فيها تصوراً مثالياً للخيال العلمي الجاد، عندما وصف قنبلة ذرية تنفجر بقوة شديدة تنهي الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة تجري في ذلك الوقت تجارب سرية على صناعة قنبلة ذرية ضمن مشروع مانهاتن، وقد بلغت هذه الرواية من الدقة في تفصيلاتها العلمية ما جعل المخابرات الأمريكية تشكّ في أن الكاتب قد توصل إلى معلومات سرية عن تجارب القنبلة، لكن التحقيقات أثبتت أن ما كتبه ليس إلا خيالاً جامحاً، هذا النوع من الخيال هو الذي تفتّقت عنه روائع الآداب والاختراعات العلمية، وهو ما توقفت عنده المحاضرة القيّمة للباحث والأديب محمود نقشو بعنوان “الخيال الجامح بين العلم والأدب” التي افتتح فيها اتحاد كتّاب حمص نشاطه الثقافي لهذا الموسم، واستهلها بتعريف الخيال على أنه القدرة العقلية على التجريب واكتشاف الجديد، وعلى البناء والتشكيل والمحاكاة والربط واستخدام صور ذهنية تحاكي الطبيعة، وقد لا يكون الخيال ملامساً للواقع، لكنه القوة التي تحرك المخيلة والإبداع والرؤى والفكر، ويؤسّس لما يُسمّى الفرضيات ثم النظريات ثم الحقائق.
وبالنسبة للأدب يعود نقشو إلى بدايات تشكّل الخيال كجنس أدبي في عام 1825، بعد النجاح الباهر الذي حقّقته قصص الكاتب الألماني أرنست هوفمان، حيث صار منذ ذلك الوقت للمصطلح صيغة سحرية تغطي أغلب النتاجات الأدبية تنوعاً، وحمل ارتباطه بالعائد من العالم الآخر، والأرواح والشياطين معنى خاصاً، بعد أن كان المصطلح يعني في القرن السادس عشر “المتخيَّل”.
يميّز الكاتب هنا بين الخيال الذي يسرح بالشعراء نحو عوالمهم ومرابعهم، وإلى وادي عبقر الذي تُنسب إليه شطحاتهم الغنيّة بالوجدان والمفعمة بالتخيّلات النابضة بالمفردات المعبّرة عن قلوب مرهفة بالأحاسيس المتأججة بالخيال، وبين الخيال البعيد عن وادي عبقر والقريب من وادي السلكون، كما يسميه، خيال له ضوابطه الصارمة ومواصفاته الدقيقة، الخيال الذي يصفه أحد علماء الفيزياء بأنه الخيال المكمّم في سترة المجانين. والمقصود به الخيال بكل انطلاقاته وإبداعاته وجموحه، الذي يفوق في انطلاقاته ومساحاته أي خيال قد راهن عليه شاعر نابغة أو صاحب سجع بليغ، والأهم من ذلك أنه خيال ينعكس على الواقع الملموس إنجازات حياتية وقفزات تقنية، وتغيّرات مذهلة في الكمّ والنوع على المستوى الكوني، عكس الخيال الشاعري الذي يرتدّ على نفسه ليعيش من جديد أحاسيس مفرطة وألفاظاً عائمة في الأفق.
هذا الطرح هو ما يطلق عليه بالثقافة العلمية، وهي الغائبة في ثقافة أمتنا التي حفل تاريخها بكل صنوف الفكر والثقافة والسياسة، لكنها تخلّفت عن ركب ذلك الجانب الذي يصنع الحضارات، ويشيد الإنجازات، جانب العلم الطبيعي وثقافته وتفاعلاته، والخيال العلمي جزء لا يتجزأ من تلك التفاعلات، وينضوي تحت منظومة الثقافة العلمية، وهي الوسط الذي تتحرك فيه العلوم التقنية، هذه المنظومة التي أصبحت أكثر أهمية وإلحاحاً في الألفية الثالثة، ويقصد هنا تحديات العلم والتقنية والثقافة التي تهمل العلوم فتفقد فاعليتها، وهو هنا لا يقصد بالثقافة العلمية ثقافة معلومات فقط، بل ثقافة تفكير ومنهج عمل وتفاعل حياتي وممارسة سلوكية.
ويشير إلى أبرز المعالم التي ينبغي أن تؤصّل لها الثقافة العلمية، وهي مصطلح المنهج العلمي المظلوم في الأدبيات العربية تعريفاً واستيعاباً واستخداماً، فقد استطاع العقل العربي، فيما امتلك من فصاحة وبلاغة وخيال ورومانسية أن يطوّع هذا المنهج لأحلامه وأمنياته وأوهامه، لكن الحقيقة المستعصية على هذا العقل أن لهذا المنهج ضوابطه الصارمة، ويتميّز بشقين متفاعلين متلاحمين هما التجريب والمنطق الرياضي، ولكل منهما حواف حادة من الانضباط لا تسمح للأهواء والأمزجة والرومانسية أن تعبث بالقول والعقل والقرار والالتزام، وهكذا يتضح أن للمنهج العلمي خصائصه وضوابطه، ومن أبرزها القدرة على التنبؤ والتراكمية.
وتوقف نقشو في بحثه المطوّل عند أهم المكتشفات العلمية الباهرة التي خدمت البشرية ويعود الفضل في ظهورها إلى الخيال العلمي الجامح، ولعلّ أبرزها تقنية “النانو”، حيث تفوق العلم على الخيال في قضيته المتناهية الدقة والإنجاز العلمي الثوري، الذي ينفق عليه العالم أكثر من عشرة بلايين دولار سنوياً لتطوير أبحاث هذه التقنية، التي تشمل كل أنواع الأجهزة الإلكترونية، والأبحاث الطبية والعلوم الحيوية التي تطمح إلى تأمين الأعضاء البشرية، والعلاجات المذهلة للكثير من الأمراض إلى جانب الاستخدامات العسكرية.
وهكذا نجد أن الخيال العلمي، عندما يطلق العنان لفضاءاته المتنوّعة يصل إلى حدود لا تخطر على بال شاعر، ولا خطيب بليغ، فالكثير من الإنجازات العلمية والتكنولوجية سبق التنبؤ بها بسنوات، كصناعة الروبوتات والقنبلة الذرية وعلوم الفضاء وغيرها، فالحرب القادمة هي حرب تكنولوجيا.
آصف إبراهيم