405 عمال في محطة الدير علي.. ظروف عمل قاسية وحوافز بالقطارة!
عشرات التساؤلات تتسلل إلى الذهن عندما تلمس قدماك حرم محطة دير علي في ريف دمشق، صرح كبير وضخم يفخر به أي مواطن غيور، ويبرر للمسؤولين “مداراة صخبها” خلال الأعوام العشرة الماضية المعمدة برائحة الحرب التي خاضتها المحطة جنباً إلى جنب مع أبناء المنطقة و”أولادها” المجهولين ممن يواصلون الليل والنهار داخل أغوارها، يحتضنهم الجيش الباسل بكل يقظة وقوة، المحطة التي تعتبر الأضخم في سورية يديرها 405 عمال، و54 عاملاً لبوا نداء الوطن، تغطي دير علي 40% من الشبكة الكهربائية، وتنقل التيار لأكبر محطات التحويل في الديماس وعدرا عن طريق شبكة نقل 400 كيلو فولط، فما هي آلية العمل داخلها؟ وكيف تدار؟
خلية نحل
بعيداً عن حال التيار الكهربائي، وما ينتابنا جميعاً من ملل وضجر، وربما “فوران” من ساعات القطع الطويلة، والفصل الترددي، ورغبتنا المشروعة بحصولنا على “النور” بعد يوم مضن وطويل نقضيه عراكاً لتأمين مستلزمات الحياة، إلا أنه من واجبنا كإعلام أن نضيء نحن هذه المرة على من يقبعون خلف أضخم الآلات، ويتعرّضون لأعلى درجات الصخب، وفي الوقت نفسه يتلقون اللوم والعتب من الشارع، غير أنهم يستمرون بعملهم متذكرين دوماً واجباتهم، وغافلين عن حقوقهم.
في جولة دامت لأكثر من ثلاث ساعات في أقسام المحطة، تعرّفنا فيها عن كثب على آلية العمل، واستمعنا إلى هموم العمال وهواجسهم، والمخاطر التي يتعرّضون لها، أدركنا من خلال الأحاديث المتبادلة مع المعنيين أنه في الوقت الذي لا بديل فيه عن قطع التبديل، تنعدم رفاهية الفصل المتواجدة في باقي محطات العالم، فيضطر “حراس” دير علي إلى العمل تحت الحمل، بمعنى أن المجموعة تستمر بعملها مع ضغط بخار عال، وبرامترات خطرة جداً، فالمنظومة بحاجة لكهرباء، والفصل هنا محرم إلا في الحالات الأشد ضرورة، ومن الناحية الميكانيكية يتعاطى العمال مع بخار تصل درجة حرارته إلى 500 درجة مئوية، وضغط يصل لحوالي 140 باراً، وهو بخار غير مرئي له صوت عال جداً، وعندما يتسرب من صمام أو خط فهو قادر على قطع العامل لنصفين، حسب ما علمنا، لذا يتوجب على العامل أن تكون حواسه دوماً على قدم وساق، خاصة في الليل والحالات الطارئة، من الضروري أن تكون حاسة السمع تسبق خطا الأقدام، فهي سلاح العمال والفنيين والمهندسين الوحيد في مواجهة ضغط البخار، ومن الأمور المهمة التي من الضروري ذكرها أيضاً كي نكون بصورة الجو الذي يعمل به 400 عامل، التعاطي مع توتر 6 كيلو فولط و20 كيلو فولط، ولدى قسم الكهرباء في المحطة قاعدة مفادها “الغلطة مرة واحدة” عند التعامل مع الـ 6 كيلو فولط، لأن الشخص قد تصعقه الكهرباء عند أصغر خطأ، وعلاوة على ذلك يأتي الحصار ليزيد من أوجاع المحطة، فانخفاض كميات الغاز المورد، وصعوبة تأمين قطع التبديل كان لهما تأثير سيىء، ولكن من جانب آخر، كما أفصح العمال، زاد ذلك من خبرتهم عند إعادة الحياة لقطعة تبديل مهترئة، أو صيانة صمام وصناعة آخر جديد، كما قاموا بالاستغناء عن إحدى الخبرات الخارجية كان قد تعاقد مع المحطة لثلاث سنوات قادمة، لمقدرتهم على الصنع والابتكار، مقابل كل ذلك ماذا يمنح العامل في محطة دير علي؟!.
لا شيء يذكر
أولئك العمال، وعند “دردشتنا” معهم، ينسون حقوقهم إن لم تذكرهم بها: “شو مشاكلكم؟”، والله الحمد لله ما عنا مشاكل”، لتعود وتسألهم عن رضاهم فيما يتعلق بالحوافز وطبيعة العمل والمكافآت، فيتجرأ البعض منهم ويقترب من آلة التسجيل، ويتحدث عن نظام التعويضات الذي لا يتناسب مع طبيعة الجهد المبذول، وعدد ساعات العمل الطويلة، ويعترف المعنيون بالمحطة أنهم غير قادرين على الاستغناء عن عامل لساعات طويلة وهو ينتظر دوره في الخبز والغاز، لذلك يتم تأمين هذه المستلزمات، ورغم أن تأمين السكن والمواصلات أمر مغر وليس بالسهل واليسير في الظروف التي نمر بها، لكن هذا لا يعني غض النظر عن معاناة العمال فيما يخص الإضافي، ووجبة العمال التي من الضروري أن يكون البيض والحليب أحد مكوناتها، وهي أمور، بحسب بعض الفنيين والعمال، ما زالت تحسب على السعر القديم رغم التفاوت الكبير بالأسعار الذي لا يخفى على أحد، أما التعويضات فهي لاتزال تقدم بناء على راتب عام 2013، أما الحسميات فهي على الراتب الحالي، ومن المنغصات التي تحدث عنها العمال، التفريق بين العمال المثبتين والمؤقتين، صك استخدام، فالأول لديه تعويض أعمال خطرة، أما عامل صك الاستخدام فلا يملك هذا التعويض، وكمثال طرحه أحد العمال المؤقتين، وهو أمر حصل معه، أنه قد يتعرّض الاثنان للإصابة نفسها، بالمكان نفسه، وبظروف العمل نفسها، المثبت يتم تعويضه، والثاني يحرم منه، وتحدث أحد العمال عن عدم منح الأهمية للاختصاص، بمعنى أن الفني قد يتجاوز مجهوده مجهود المهندس، وأحياناً يجلس 24 ساعة على قدم واحدة على آلة الخراطة مثلاً، لكن طبيعة العمل لا تصل كاملة، وإن وجدت لا تتجاوز الـ 4 آلاف ليرة فقط، مشيرين إلى أن العامل العادي الذي لا يملك اختصاصاً يتقاضى لدى القطاعات الخاصة 200 ألف ليرة مقابل 400 ألف ليرة لمن يملك الاختصاص، وهم باتوا من القلائل بسبب الهجرة خارج البلد، والتسريب، والاتجاه نحو “الخاص”، ولم يخف البعض أنه قد يوضع أمام خيارين: إما البقاء والقبول بالوضع على ما هو، أو الذهاب للقطاع الخاص والورش التي تعطي في اليوم الواحد 25 ألف ليرة، كما أشاروا إلى أن استفادتهم من الطبابة لا تتجاوز الـ 5% في ظل محاسبة المشافي والأطباء المتعاقدين مع الوزارة على أسعار قديمة، وهذا ما لم تعد تقبله تلك الجهات، إلى آخر مكافأة وصلتهم منذ شهرين البالغة في حدودها الدنيا 10 آلاف، بحسب نوع العمل والجهد، ومع شفافية مدير المحطة المهندس محمد خير إمام الذي كان واضحاً في حديثه عن العمال، وضعف مستحقاتهم، وعدم تكافؤ الجهد المبذول مع الحقوق، لم يتوان عن التذكير بأن قرب الورش والقطاعات الخاصة من المحطة كان له أثره السلبي على تسريب العمال لقاء الأجور المرتفعة التي يقدمها الأخير للعامل، واصفاً ذلك بالمعضلة الحقيقية، معتبراً تأمين السكن أمراً إيجابياً قد يجعل الموظفين يتمسكون بعملهم لأجله، مشيراً لوجود مهام خطرة يقوم بها عمال المحطة على المخرطة والمراجل، ودرجات الحرارة المرتفعة، ويتعرّضون لأمراض عدة، والمواطنون بمنأى عن هذه التفاصيل، والظروف القاسية التي يعيشها العامل.
يوميات عامل
ومن داخل الورش والأقسام تشاركنا مع العمال يومياتهم، وكيفية تعاملهم مع الآلات ومحاكاتها للخروج بصمام جديد، أو بث الحياة بقطعة معطلة وخارجة عن الخدمة، فعناصر قسم الصيانة التحكمية يضطرون لصيانة الصمامات بجهود محلية، وهم قادرون، كما قالوا، على إصلاح أي عطل في المحطة خلال 24 ساعة وإعادته للخدمة، وفي غياب الأعطال يتم تجهيز الصمامات تلافياً لأي طارئ.
رئيس دائرة التحكم بالمحطة طوني بنهش قال: اختصاص العمال في القسم هو الالكترون، القسم الأكبر والمجهود العضلي والفني ينسب لقسم الكهرباء والميكانيك، فيما نعتبر نحن الواجهة الأولى بالنسبة للأعطال، وأي عطل أو فصل يفرض تواجدنا، وعدد نقاط التحكم يتجاوز 20 ألف نقطة، وأي خلل فيها نتواجد مباشرة لحلها، نعاني من نقص العمال، إذ لدينا نوع، وليس كم، وأغلب عمال القسم تلقوا التدريب خارجاً، هذا قبل الأزمة، وبعد إنشاء المحطة الثانية كسبنا من الخبراء أكثر ما يمكن، وتم تدريب العناصر لمواجهة أي عطل، ويضيف: نضطر أحياناً للعمل ثلاثة أو أربعة أيام متواصلة بخمسة عناصر فقط، ولم نحتج لأية خبرة خارجية منذ ثلاث سنوات، أما قسم الصيانة الميكانيكية فطبيعة العمل فيه حساسة، وتحتاج لعمل وجهد لساعات طويلة قد يمتد لـ 24 ساعة، وأحياناً لأيام متواصلة بحكم طبيعة التجهيزات التي تتطلب جهداً فنياً متميزاً من قبل الكادر الفني والصيانة، وبيّن رئيس القسم وسيم غاوي أن الميزة الأهم هي تصنيع قطع التبديل، أو إعادة صيانتها، واكتساب الخبرة خلال الأعوام العشرة الماضية، وتعنى دائرة الصيانة الميكانيكية بصيانة العنفات الغازية والبخارية والمراجل، وإصلاح أي صمام أو مضخة أو عطل طارىء، أو صيانة مبرمجة مباشرة، في حين هناك عمليات صيانة تحتاج إلى موافقات مسبقة لتنفيذها كصيانة العنفات الغازية والبخارية والمراجل، وقال غاوي: العمال تحدوا عدم توافر قطع الغيار بخبراتهم المحلية، وقاموا بتصنيع وتجهيز أجزاء كثيرة من الصمامات والضواغط للحفاظ على هيكلية المحطة بأقصى طاقة ممكنة.
نجوة عيدة