أقل ما يقال .. من شوّه “اقتصاد السوق”..!
البعث الأسبوعية – حسن النابلسي
يكاد يجمع أغلب الاقتصاديين على أن “فكرة اقتصاد السوق الاجتماعي صحيحة، بيد أن المشكلة عندنا تتمثل بالحكومة التي لم تعط هذه الفكرة برنامجاً واضحاً، وإلى الآن لا أحد يفهم ما هو المطلوب من اقتصاد السوق الاجتماعي، وما عرفناه بعد التطبيق العملي له يتلخص فقط بتخلي الدولة عن الدعم”..!.
لا شك أن الأزمة ساهمت بضبابية المشهد الاقتصادي السوري، وحالت دون وضوح الرؤية والحكم على تجربة “اقتصاد السوق الاجتماعي”، فبعد مضي قرابة الخمسة أعوام على انتهاج اقتصاد السوق الاجتماعي وما تمخض عنه من تداعيات أدت إلى ارتفاع الأسعار نتيجة تحرير معظم السلع والمواد، واعتماد مبدأ العرض والطلب دون الرجوع إلى آلية تسعير محددة ومعتمدة من وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك التي اكتفت بمراقبة مدى التزام التجار بإشهار لائحة الأسعار وبطاقات بيان السلع والمواد، جاءت أزمة العشر سنوات لتعقد الأمور أكثر فأكثر، ووصلت إلى مرحلة باتت فيها الأسعار لا تتوقف عند سقف محدد، ولم يستطع المستهلك التكيف معها، خاصة في ظل عدم موازاة الأسعار للرواتب والأجور في كلا القطاعين العام والخاص، ناهيكم عن غياب واضح لمبدأ المنافسة ليحل محله الاحتكار، مشوهة بذلك نهجاً اقتصادياً طالما نجح في العديد من الدول التي سبقتنا إليه..!.
لقد ثبت أن اقتصاد السوق الاجتماعي، وخلال السنوات السابقة، كان لصالح فئة التجار التي استفادت منه على حساب الشريحة الواسعة من المواطنين، عبر تحرير الأسعار والحصول على هوامش ربح واسعة، بحجة أن قوى العرض والطلب هي من تحدد الأسعار، لكن واقع الأمر يؤكد أن التجار هم المسيطرون في هذا الشأن، نظراً لغياب المنافسة الشريفة وسيطرة الاحتكار، ما دعا كثيراً من المراقبين إلى المناداة بإعادة سياسة التسعير الإداري السابقة التي كانت معتمدة أيام الاقتصاد المركزي المخطط، على اعتبار أن المستهلك كان الضحية الأكبر جراء تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي، في وقت يرى آخرون أن سورية ليست بمعزل عن العالم ويجب عليها الانخراط بالاقتصاديات العالمية، وبالتالي فإن اعتماد اقتصاد السوق أمر لا مفر منه، كي تتواصل عبر اتفاقيات وشراكات اقتصادية مع الدول والمنظمات العالمية، وإن فشلت فكرة اقتصاد السوق في سورية فذلك يعود إلى سوء التطبيق، وليس لماهية الفكرة..!.
لا شك أنه لم يكن مقبولاً أن يبقى الاقتصاد موجهاً ومخططاً مركزياً، من قبل الحكومة، في محيط عالمي يتحرك بأسره نحو اقتصاد عالمي ينحو إلى الانفتاح والتحرر، ففكرة اقتصاد السوق لم تكن خياراً وإنما ضرورة ملحة، ولم يكن من المنطقي البقاء ضمن حالة التكبل والتقيد التي كان يعيشها الاقتصاد السوري سابقاً، حيث كل شيء محكوم بقرارات مركزية من الحكومة، وليس هناك مد حقيقي لاقتصاد السوق ولقوى العرض والطلب، لذلك ومن أجل مجاراة الاقتصاد العالمي والانفتاح عليه وتطوير بنيتنا الاقتصادية، كان لابد من السماح للقطاع الخاص بالتحرك عبر انتهاج اقتصاد السوق الاجتماعي.
لكن ما حاولوا تطبيقه في سورية هو إعطاء النصيب لاقتصاد السوق كي يتحرك مع المحافظة على البعد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية في التوزيع، إلا أن ما حصل على أرض الواقع لم يكن قريباً من مصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي، وإنما كان هناك تحرير للسوق وتراجع لدور القطاع العام، مع تركز الثروات بأيدي فئة قليلة من التجار وأصحاب رؤوس الأموال، أي أن نهج اقتصاد السوق نجح في أحد طرفيه بأخذ الثروة وامتصاص النسغ الاقتصادي من الاقتصاد الوطني ليتركز في يد فئة معينة، بما يتناسب مع حقيقة جوهر عمل اقتصاد السوق، وفشل بجانبه الآخر المتمثل بالاجتماعي، وكانت النتيجة زيادة نسبة الفقر، وارتفاع الأسعار بشكل هائل مع تنامي حاجات الناس الاستهلاكية، إلى جانب ظهور ما يسمى بالركود التضخمي، مع انتفاء المفردة الأساسية في أي اقتصاد حر (المنافسة ومنع الاحتكار)، والتي تعتبر بيضة قبان السوق الحر، كونها تعني أن البقاء في السوق للمستثمر الأفضل..!.
ما سبق يقتضي ضرورة العودة إلى نظام التسعير، نظراً لأن القطاع الخاص لم يلتزم بأمانة بدوره الوطني في ظل اقتصاد السوق الاجتماعي، وعلى الحكومة متابعة تكاليف القطاع الخاص بإنتاج واستيراد السلع، وتحديد هامش ربح له، فبهذا يكمن دور الدولة بتأمين الجانب الاجتماعي للمستهلك، وكان عليها تحمل مسؤوليتها بضبط السوق خلال الفترة الماضية، وعندها نتمكن من تطبيق اقتصاد سوق حقيقي تنتفي العودة للتسعير، وما نعيشه الآن لا يمكن أن نطلق عليه اقتصاد سوق حقيقي، كون المنتجين والمستوردين من القطاع الخاص لديهم مزايا ودعم من الدولة إضافة إلى القوة الاحتكارية، إضافة إلى ضرورة تشجيع المنافسة من خلال تفعيل قانون المنافسة ومنع الاحتكار بحيث يضمن حماية المستهلكين، وعدم تركز القوى الاقتصادية بأيدي قلة، والمبادرة إلى توزيع فعال للموارد في الاقتصاد لتأمين خيارات أكبر للمستهلكين.