الشارع غاضب والتظاهرات متواصلة ضد “قانون الأمن الشامل” وعنف الشرطة.. فرنسا تخطو نحو الدولة البوليسية؟!
“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي
شهدت فرنسا في الأيام الأخيرة مظاهرات احتجاجية في العديد من المدن على خلفية حادثة الاعتداء الذي تعرض له ميشيل زيكلير، المنتج الموسيقي من ذوي البشرة السوداء. وقد ندد المتظاهرون بالعنف الذي اتسمت به تدخلات رجال الشرطة، وذلك في سياق حساس تميز بتوتر العلاقة بين المؤسسة الأمنية وجزء من الرأي العام الفرنسي.
كما هزت مقاطع الفيديو، التي وثقت الاعتداء على زيكلير، الطبقة السياسية بمختلف توجهاتها، بما فيها الحزب الحاكم “فرنسا إلى الأمام”؛ ولم يقتصر الاعتداء على ضرب مواطن أعزل، بل يبدو أن أحد رجال الشرطة تفوه بعبارات عنصرية، ما أجبر وزير الداخلية على أن يكون صارما في رده من خلال التوقيف الفوري للعناصر الأمنية المتورطة، مع الوعد بإنهاء خدماتهم في حال ثبتت التهم الموجهة إليهم.
المشكلة أن هذه الحادثة لا تبدو معزولة، فقبلها بيوم تقريبا انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو توثق عنف تدخل رجال الشرطة الباريسية لفض اعتصام للمهاجرين، مساء الإثنين قبل الماضي، في “ساحة الجمهورية”، وأغلبهم من جنسيات أفريقية، وقبل ذلك كانت احتجاجات السترات الصفراء قد كشفت عن حجم التجاوزات الأمنية. والحقيقة، تشهد فرنسا منذ قرابة العامين نوعا من التوتر بين الشارع والمؤسسة الأمنية، خاصة في ظل غياب أي تتبع قضائي وإداري ينصف ضحايا هذه الاعتداءات.
لكن، وفي مشهد مناقض تماما لهذا الواقع، كانت الحياة البرلمانية في الأسابيع الأخيرة مشغولة بتمرير قانون مثير للجدل – “قانون “الأمن الشامل” – يحظر، في أحد بنوده، نشر مقاطع الفيديو التي تصور رجال الأمن في حالة تدخل باستعمال القوة، وهو ما أعطى انطباعا لدى المعارضة، ولدى الصحافة، ولدى الجمعيات الحقوقية، بأن الأغلبية الحاكمة متورطة بدورها في هذه التجاوزات، وهي تحميها وتمنع حرية الحصول على المعلومة. والحال، فإن أغلب التجاوزات الأخيرة لم يكن بالإمكان كشفها لولا المقاطع التي وثقها الهواة.
وهنا، يطرح السؤال نفسه حول الآليات القانونية والمؤسساتية المعتمدة للحد من هذه التجاوزات في فرنسا، التي بنت تاريخها الحديث والمعاصر على مفاهيم الحرية والحقوق والمواطنة.. وهنا، ربما تكمن المشكلة الحقيقية، فهذه العملية موكلة إلى جهاز الشرطة، غير أنه من النادر أن تفضي تحقيقاتها إلى إدانة واضحة، وإلى عقوبات رادعة، ما أدى إلى تراجع مصداقيتها؛ بل أصبحت هي نفسها متهمة بالتغطية على التجاوزات، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى تركيبتها المشكلة أساسا من رجال الشرطة. وقد تكون أولى خطوات الإصلاح في مراجعة هذه التركيبة. وعليه، فقد أوضحت “مسيرة الحريات” هذه معارضة قوية لقانون “الأمن الشامل”، وبشكل خاص معارضة عنف الشرطة، في ظل حرارة الأخبار الواردة في الأيام الأخيرة عن طرد المهاجرين من “ساحة الجمهورية”، والاعتداء على الصحفيين الذين كانوا يغطون الحدث. ولم يساعد مقطع الفيديو الذي نشره الموقع الإلكتروني Loopsider حول الاعتداء على زيكلير في تهدئة الأرواح الثائرة، حتى أنه تعين على ديدييه لالمان، مدير شرطة باريس، الطلب من عناصره الحفاظ على المتظاهرين والصحفيين على حد سواء، ما دفع منظمة “مراسلون بلا حدود” غير الحكومية لتقديم شكوى ضده.
ويعزو مراقبون سبب نجاح هذه التعبئة، جزئياً، إلى عمل وتنسيق حملة “أوقفوا قانون الأمن الشامل”، والتي حققت إنجازاً يتمثل في الجمع بين الشركات والتجمعات وجمعيات الصحفيين والمديرين والاتحادات النقابية ومنظمات حقوق الإنسان، وتجمعات الكفاح ضد عنف الشرطة، وأحياء الطبقة العاملة والسترات الصفراء، حتى أن الصحفيين، في جريدة “لوفيغارو”، دعوا إلى اتخاذ إجراءات قانونية صارمة ضد عنف الشرطة، كما طالب المتظاهرون باستقالة وزير الداخلية، جيرالد دارمانان، الذي وجهت إليه تهم الاغتصاب والتحرش الجنسي، وفي مقدمة هؤلاء المتظاهرين، كانت هناك عائلات ضحايا العنف الشرطي، ومجموعات المهاجرين غير الشرعيين، والمحامون الغاضبون؛ فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، توفي أكثر من 676 شخصاً نتيجة عنف الشرطة.
وكانت آسا تراوري، الشخصية البارزة في مكافحة عنف الشرطة، حاضرة في هذه المسيرات، حيث لفتت إلى وجود عنصرية في أجهزة الشرطة الفرنسية، مشيرة إلى أن صور ميشيل زيكلير كانت صادمة، ويجب التوقف عن لعب دور المنافقين، مضيفة: “إن العنف على هذا النحو يمارس منذ سنوات في الأحياء الفرنسية الفقيرة، وأحياناً لا يتوفر لأطفالنا الوقت لإخراج هواتفهم، لذلك يجب أن نوسع المعركة.. وإذا كنا جميعاً هنا، فذلك لأننا أصبحنا جنوداً رغما عن أنفسنا”. وتابعت: “نحن نناضل من أجل العدالة الاجتماعية، وإذا تعرضت العدالة للخطر، فإن كفاحنا لا معنى له، لذلك يجب حمايته. علاوة على ذلك، سيعرض- “قانون “الأمن الشامل” – أساليب عملنا للخطر.. نحن نعلم أننا سوف نتحمل المزيد من المخاطر بشكل جماعي إذا تم تمرير هذا القانون”.
وأثناء انطلاق المظاهرات، اندلعت بعض الاشتباكات بين سلطات إنفاذ القانون والكتلة السوداء في حي “الباستيل”، كما اندلع حريق على منصة نقالة في “بولفار بومارشيه”، وشب حريق آخر في سيارة. وسرعان ما تدخل رجال الإطفاء وسط تصفيق المتظاهرين، كما تم الهجوم على مقر بنك فرنسا ومحل لبيع الصحف، ولكن ذلك لم يمنع المتظاهرين من الوصول بالآلاف إلى ساحة التحشد الرئيسية لإنشاد الأغنية التي أطلقتها المغنية كاميليا جوردانا: “غنوا يا رفاق.. في الليل تصغي الحرية لأصواتنا”.
لقد اصطدم القانون الجديد الذي أطلقه إيمانويل ماكرون بحقيقة الوضع في فرنسا. كانت قوته غير شرعية منذ البداية، فقد جاء إلى قصر الإليزيه بعد عملية نظمتها وظيفة العليا للدولة، بالاستناد إلى الأوليغارشية الفرنسية، وبدعم من انقلاب قضائي. هذه اللاشرعية هي خطيئته الأصلية، ولا يمكن تحقيق حكمه إلا من خلال تعسف المؤسسات، والاعتماد على الشرطة والأجهزة القضائية التي وضعت نفسها بالكامل في خدمته، خاصة في مواجهة الحركات الاجتماعية عامة، والسترات الصفراء على وجه الخصوص. ولذلك فإن هذا الحكم هو أيضاً غير شرعي بنظر الغالبية العظمى من الشعب الفرنسي.. “كل هذه المؤسسات الحكومية ليست سوى أدوات بيد نزيل الإليزيه”، بحسب المحللين.
في هذا السياق، يتساءل احد الصحفيين: كم عدد ضباط الشرطة الصامدين الذين شهدوا في الشارع ضرب ميشيل زيكلير، منتج الموسيقى، وزملائه الصغار جداً، من قبل ثلاثة برابرة مسلحين مأجورين؟ ويضيف: هل حاول أي من العشرة أو العشرين، على الأقل بصوتهم، تهدئة البلطجية؟ بالتأكيد لا!! كل شخص لديه وظيفته الخاصة، بعضهم يضرب المدنيين، وآخرون “يؤمنون المنطقة”، أي سيضربون أول مدني ينزل من منزله. فكيف يمكن للفرنسيين النزول إلى الشارع في وقت أطلقت قوة ماكرون ثلاثة فصائل من كلاب “الروت وايلر” المسعورة، والمدربة على الهجوم في الشوارع والساحات؟ ويخلص إلى أنه “منذ تشرين الثاني 2018، تشهد فرنسا كل سبت إطلاق سراح حيوانات برية متعطشة للانقضاض على لسترات الصفراء، مدربة على عض الجماجم، على تمزيق الأيدي والعينين، دون أن يطلق كلبهم إيماءة لتهدئتهم.. حقيقة، يجب استنتاج أن كل رجال الشرطة في الشارع هم من فصيلة الروت وايلر”.
سأترك الشرطة للأسباب نفسها..!!
على خلفية هذه الأحداث والاحتجاجات، أرسل ألكسندر لانغلوا، ضابط الشرطة، والمبلغ عن المخالفات، والسكرتير العام للرقابة على الشرطة، خطاب إنهاء خدمته إلى وزير الداخلية، جيرالد دارمانان، جاء فيها:
“أرى أنه ليس هناك مشكلة لدى الفرنسيين حيال الخضوع للقوانين التي وافقوا عليها، ولكن دور شرطتهم لم يعد حماية حرياتهم، وإنما القضاء عليهم جميعاً، أقذر الظالمين سيفعلون ذلك.
هل ما زلنا نتحدث عن قوة شرطة جمهورية؟ أم أنها بالأحرى ميليشيا في خدمة سلطتك؟”.
لقد أصبحت وزارة الداخلية أقل صرامة بكثير بحق ضباط الشرطة الذين يضربون أو يشوهون أو يقتلون الأبرياء، مثل السيدة زينب رضوان، أو السيد ستيف كانيكو، أو السيد سيدريك شوفيات، بينما ضباط الشرطة الذين، على العكس من ذلك، ينددون بهذه الانتهاكات والاختلالات، يتم توبيخهم بشدة على أساس أنهم لا يبدون الولاء للتسلسلية الهرمية، أو هم يقوضون سمعة الشرطة الوطنية! منذ ذلك الحين، كانت الشرطة في خدمة رئيس الجمهورية الذي يستخدمها لقمع أي حركة اجتماعية احتجاجية، مثل السترات الصفراء، وضد الممرضات ورجال الإطفاء والأطباء والمحامين، بدلاً من السماح لهم للتعبير عن مطالبهم بطريقة خاضعة للإشراف والأمان. منذ أزمة فيروس كورونا، تم تكليف الشرطة بالرقابة الاجتماعية، ولم تعد ملزمة بقانون العقوبات. لقد تم تحويلنا عن مهماتنا الحقيقية، وهي محاكمة الجانحين والمجرمين، وضمان السلام والأمن لمواطنينا”.
ويشرح الكسندر لانغلوا الحدث المسبب الذي دفعه لطلب استراحة تقليدية، قائلاً:
في 26 تشرين الثاني 2020، قدم السيد ديفيد بيروتين، الصحفي في Loopsider، مقطع فيديو لرجل تعرض للضرب فعلياً على يد ثلاثة ضباط شرطة اقتحموا مكان عمله دون أي إنابة قضائية. هذا الحدث المخزي، وكذلك ردود فعل الوزارة التي أعقبته، عززت اقتناعي بإنهاء مهامي. المرافعة الوحيدة التي يمكن الدفاع عنها، على الرغم من كونها خيالية لرئيس الشرطة، السيد ديدييه لالمان، فيما يتعلق بالاعتقال المذكور أعلاه، هي القول إنه “لم يكن على علم”.
“نعم، أنت تكذب يا سيادة الوزير، عندما تدعي أنك تريد حماية الشرطة من خلال الحكم بالسجن لمدة عام واحد لنشر صورة ضباط شرطة يمكن التعرف عليهم، في حين أن النصوص الموجودة بشأن المضايقات والتهديدات تنص بالفعل على عقوبات أكثر من مرتين إلى خمس مرات، لكنها في الواقع لم يتم تطبيقها أبداً. هل علي أن أذكرك مرة أخرى أن السبب الأول لوفاة ضباط الشرطة المناوبين هو الانتحار؟.. منذ انتخاب إيمانويل ماكرون، تم التضحية بحوالي 150 شخصاً”.
يجدر التنويه إلى أن ألكسندر لانغلوا يقوم بحملة منذ عدة سنوات بصفته نقابياً من أجل نزاهة الشرطة.. فخلال أزمة السترات الصفراء، ندد بالعنف الذي تعرض له هؤلاء بسبب سوء إدارة الشرطة في حفظ النظام، كما شدد على عنف الشرطة المؤسسي، وكشف عن “تزوير شخصيات جانحة”، واعتداء جنسي على طبيب شرطة.
في 3 تموز 2019، تم إيقافه عن مهامه كجندي حفظ سلام لمدة عام، منها ستة أشهر مع وقف التنفيذ.. هذا على الرغم من تقييمه الاحترافي الرفيع.. دعمه الفرنسيون، بشكل خاص، عقب كلمته هذه. فهل يعتبر خطاب إنهاء الخدمة الذي أرسله ألكسندر لانغلوا علامة على أن الشرطة لم تعد في خدمة سيادة القانون؟ وهل ما يصفه ألكسندر لانغلوا خطوة أخرى في اتجاه نظام جديد: دولة بوليسية؟