غونكور تكرّم “شذوذ” لريادية خيالها سيناريو علمي يستشرف آفاقاً رحبة.. وفكرة غريبة تفتح الرواية على خيارات فنية متعددة
“البعث الأسبوعية” ــ جمان بركات
نهاية تشرين الأول الفائت، وبعد تأجيل متعمد امتد لأكثر من شهر، أعلنت لجنة هيئة المحلفين في أكاديمية غونكور الفرنسية، في مؤتمر متداول بالفيديو، بسبب الإجراءات الاحترازية ضد كورونا، بدل المطعم الباريسي “دروان” الذي يجتمع فيه المحلفون، عادة، لإعلان جوائزهم، اسم الرواية الفائزة بجائزتها المرموقة لهذا العام 2020، والتي منحتها للكاتب الفرنسي هيرفي لو تيلييه، عن روايته المعنونة بـ “شذوذ” (بمعنى حدث غير طبيعي وغير مألوف أبداً)، وهي من منشورات دار غاليمار، وذلك بعد حصولها على ثمانية أصوات من أصل عشرة هم أعضاء اللجنة، وجاء التأخير ليعبِّر عن تعاطف إدارة الجائزة مع المكتبات المغلقة بسبب الحجر الصحي، ورحَّل أكثر من مرة إلى حين اقتراب افتتاح أماكن بيع الكتب، كي لا تفوِّت الفرصة على أصحاب المكتبات وعلى القراء معاً.
وفي رد فعله الأولي كشف لو تيلييه بأنه لم يكن يتوقع الفوز بجائزة مهمة كجائزة غونكور، فهو مبدئياً لا يكتب للحصول على جائزة، ولم يكن يتخيل أمراً كهذا، وأضاف: “لم يكن ذلك في خططي على الإطلاق”.
تحكي الرواية، وهي الثامنة لـ لو تيلييه، عواقب رحلة جوية على متن طائرة بوينغ تابعة للخطوط الجوية الفرنسية، متجهة من باريس إلى نيويورك، تحدث لمرتين مع الركاب أنفسهم والطاقم نفسه والطائرة ذاتها، لكن بفارق بضعة أشهر؛ ففي أحد أيام شهر حزيران، ترفض السلطات المختصة السماح لطائرة من طراز بوينغ تابعة للخطوط الجوية الفرنسية، كانت قد مرت للتو في اضطرابات رهيبة في الجو، بالهبوط في مطار كينيدي، وأجبِرت على الهبوط في قاعدة عسكرية حيث تم احتجاز الطاقم والركاب من قبل المخابرات الأمريكية.. لماذا؟ لأنه قبل ثلاثة أشهر، وفي ظروف جوية صعبة مماثلة، كانت قد هبطت الطائرة نفسها بطاقمها وركابها أنفسهم في نيويورك. إذن، من أين تأتي هذه النسخة المتطابقة، التي أطلِق عليها اسم رحلة شهر حزيران، مع الرحلة الأولى التي تمت سابقاً، وسمِّيَت باسم رحلة شهر آذار؟ غموض واضطراب يسود أنحاء الكوكب نتيجة التفكير بفرضية الازدواجية عند الإنسان وأشيائه التي يمكن أن تصبح حقيقة في يوم من الأيام، وفقًا لـ لو تيلييه.
يوضح المؤلف فكرته المركزية بقوله: “نحن نعلم أن قانون موور، الذي يجعل أنظمة الكمبيوتر تضاعف قوتها وقدرتها وسرعتها كل عامين، موجود فعلاً: يتمتع هاتفي الخلوي بقوة الحوسبة التي كانت تتمتع بها حواسيب خارقة من الثمانينيات، وبعد قرن من الآن سنكون قادرين على محاكاة دماغ بشري، ثم بعد قرن من الزمان، مليارات الأدمغة البشرية.. وهناك، نسأل أنفسنا ما إذا كنا أدمغة بشرية في أجساد مادية، أو أننا فقط في حاسب عملاق”. ويضيف المؤلف: “كانت هذه الرواية طريقة للنظر إلى حياة واحدة بطرق مختلفة”، وأن ما أثار اهتمامه هو “العمل على موضوعين في وقت واحد: المواجهة مع الذات، وكذلك المواجهة مع ما هو أساسي في حياتنا من خلال فكرة ضرورة مشاركة حياة المرء مع شخص آخر”.
يعرض هيرفي لو تيلييه فريق شخصياته كما لو كان في مسلسل أنغلو – ساكسوني: قاتل مأجور، زوجان مغامران، نجمة بوب، مهندس معماري يعيش في خضم أزمة وهو في الستينيات من عمره، فتاة يافعة ووالدتها وقد تعرضتا للاغتصاب، مغنٍ نيجيري يخفي مثليته، طيار، محامية، وكاتب فرنسي اعتمد المطبوعات السرية وهو يأمل أن ينال شهرة عالمية عن كتاب سينشر له عنوانه “شذوذ”، هو نسخة طبق الأصل عن المؤلف؛ ويتضح لنا، بقليل من الانتباه، أن وجود تشابه صوتي في نطق الاسمين باللغة الفرنسية ليس مصادفة غير مقصودة، وأن مييزيل، الكاتب الذي نشر للتو واحداً من أكثر الكتب مبيعاً بعنوان “الشذوذ”، ليس سوى المؤلف ذاته.
ستواجه شخصيات الرواية موقفاً غير متوقع ولا معقول، وظاهرةً غير مفسرة حدثت في رحلة باريس – نيويورك، على حدود الواقع والخيال، وكأنها تنتمي إلى البعد الرابع. تُحْبَك الأحداث بذكاء شيطاني لتترك في نفس القارئ متعة مميزة. إنه ينتقل بشخصياته من الإثارة إلى الرومانسية، ومن الخيال العلمي إلى حالة انفصام الشخصية، ومن الدراما النفسية إلى التأملات في القدرة على ابتكار حياة جديدة، بل وفي تصور مفهوم آخر لمرور الوقت: في غضون ثلاثة أشهر من فراغ الزمن، يمكن أن تحدث أشياء كثيرة، كأن تبدأ علاقة غرامية أو تنتهي، أو يولد طفل أو كتاب، أو يحل مرض على إنسان ما.. إلخ؛ وأولئك الذين تأخروا في الإقلاع لثلاثة أشهر، ولم يصلوا أبداً (ركاب الرحلة الثانية، رحلة حزيران)، اكتشفوا أن الوقت لم ينتظرهم، وأن حياتهم استمرت وسارت من دون وجودهم.
في رواية “شذوذ”، يلعب لو تيلييه بالأسئلة الميتافيزيقية، وبالتصورات الممكنة للحياة المستقبلية للإنسان، مثلما يلعب أيضاً – وقبل ذلك – بحياة العديد من ركاب طائرته الغامضة وبمصائرهم. يعترف الكاتب: “أردت حقاً معالجة الكثير من الشخصيات في وقت واحد”. لكن الأمر الأكثر غرابة في الرواية هو هذه المواجهة التي تتم، لأغراض التحقيق في الطائرة الغامضة، بين ركاب رحلة آذار – وفق ما أطلقه عليها مكتب التحقيقات الفدرالي – وبين نسخهم المكررة من رحلة حزيران! من ذلك، مثلاً، وجود قاتل مأجور مضطر لأن يقابل نسخته من ذاته.. ما الذي يمكنه القيام به غير القتل؟ المواجهة مع الذات، عندما يتعلق الأمر بقتل النفس، أمر مثير للاهتمام! وهناك أيضاً قصة تلك المرأة التي يجب أن تشارك رجلاً امرأةً أخرى ليست سوى هي ذاتها، وتختار أن تضحي بنفسها، فتتحول الرواية إلى صيغة جمع متماثل، تبدو مذهلة للقارئ، وتتوقف عند مواقف مثيرة، وأخرى مؤثرة، وتشوبها الدعابة أحياناً.
وصفت التعليقات الرواية بأنها تلاعب مكشوف بالشكل الروائي يعيد معه المؤلف التواصل مع الروح الإبداعية للغة الفرنسية، ويحرك النمط التقليدي للرواية، ليقدم عدة قصص في كتاب واحد؛ فهي، في آن، قصة بوليسية تواكبها تحقيقات من نوع مختلف وغير مسبوق، ومغامرة إنسانية تخرجنا من الواقعي إلى الغرائبي وغير الممكن ليجد إنسان ما نسخة مطابقة له من ذاته، وعلاقة حب تدفع بامرأة إلى الحالة القصوى من الغيرة تجعلها تغار من نسخة ذاتها.. إلخ.
في الواقع، يطوِّر لو تيلييه بأداة السرد ونكهة الإبهار؛ وبتنقل بارع بين الرواية السوداء والقصة الأدبية الكلاسيكية والتقارير المباشرة واستجوابات التحقيق.. إلخ، يطوِّر عملاً يستحق التقدير.
قد يكون من الممتع أن ترتبط الشخصية في الرواية بجنس أدبي يمتلك المؤلف مفاتيحه ببراعة، ويخلط فيها بين مسايرته النوع الأدبي وبين معارضته في الوقت ذاته.. من ذلك أن ترسم فقراتٌ ومشاهد ملامحَ رواية نفسية، وأخرى بوليسية، وثالثة تجسسية، لتعود بعدها إلى الأدب الكلاسيكي؛ وفي كل مرة، يبرز إتقان الكاتب للفن السردي بصورة ممتازة. لكن المؤلف لا يتلاعب فقط بالأساليب الأدبية، بل يمتد ليحمِّل روايتَه جوهراً وعمقاً مميزين حين يضع القارئ في مواجهة مع الذات الحقيقية، ويتلاعب به إلى درجة إحداث دُوار في الذهن، حين يخلخل الثوابت، ويفكك موقع الفرد في الحيز الاجتماعي الذي يشغله؛ فالمعضلات التي تكشف عنها الرواية في حياة الإنسان دائمة ومستمرة، ويكفي لإدراك ذلك استعراضُ أحداث ما جرى على متن الطائرة، والخيارات المؤلمة التي نتجت عنها: ماذا سيحدث لو..؟! ما الذي يستحق الصراع والتضحية؟! ما الذي نحن على استعداد للتخلي عنه؟! متى يكون من الصواب التنازل عن أمر ما؟! ما هو الأساسي في حياتنا؟! في الحقيقة تحفل الرواية بالكثير من التأمل الفلسفي الذي يدفع الشخصيات إلى مزيد من مواجهة الحقائق والتعرف إليها من جديد.
يجد لو تيلييه أنه يمكن تجسيد هذه الثنائية التماثلية في إدارتين أمريكيتين، إذ تنتمي كل نسخة من الطائرتين إلى زمن إدارة أمريكية يجري حالياً الانتقال من واحدة إلى أخرى بينهما: “الفكرة هي أنه بما أن ترامب موجود هنا، وبما أن ترامب هو سبب تدمير العالم، فإن رؤية الكتاب هي تقديم نسخة أخرى بديلة مع تولي بايدن الرئاسة.. (إنه خيار قراءة ممكن) فالمؤلفات تقدم خيارات، ولا يوجد خيار نهائي في الأدب؛ هناك حبكة، وقد نسجتها بهذا الشكل”.
وربما تكون هذه الغرابة في الفكرة، وما يستتبعها من أفكار، ويترتب عليها من أحداث، سبباً مهماً لانفتاحها على خيارات فنية أخرى متعددة؛ فالرواية في وجه من وجوهها يمكنها أن تلامس تصوراً حقيقياً لسيناريو خيالٍ علمي يستبق ويستشرف آفاقاً رحبة من التطور العلمي للإنسان، كما أنها تصلح حبكةً قيِّمةً لفيلم سينمائي، أو لمسلسل تلفزيوني، أو لرسوم متحركة، فالفكرة التخييلية التي تعرضها الرواية تصلح لفنون إبداعية أخرى متنوعة، وهذا ما يعطي العمل قيمة إضافية ممتازة، أسهمت بالتأكيد في اختياره لنيل جائزة الرواية الفرنسية لهذا العام.