سيدة من بهاء
سلوى عباس
في يومها الدراسي الأول في الصف الأول تفاجأت الطفلة ابنة الست سنوات أن المدرسة الجديدة تختلف عن المدرسة الداخلية التي كانت تدرس فيها قبل أن تحط الحرب أوزارها وتضطر أسرتها لمغادرة العاصمة إلى مدينتها الغافية على كتف البحر.. لقد استغربت كل شيء وما إن استلمت كتبها المقررة حتى أسرعت ممسكة بيد عمتها لتخرج إلى الطريق مباشرة غير راغبة بالعودة، لكن أين المفر، فالدراسة في هذه المدرسة فُرضت عليها بحكم وجود عمتها وبنات الجيران فيها، ولم يكن أمامها إلا أن تبقى فيها، وقضت عامها الدراسي الأول بكثير من الملل واللامبالاة لدرجة أنها لم تحفظ اسم معلمتها في الصف الأول، ولو أنه كما هو معتاد لدى الأطفال أن اسم الآنسة أول ما يرسخ في أذهانهم.
في عامها الدراسي الثاني اختلف الوضع بالنسبة لها حيث استلمت صفهم معلمة لها فرادتها، تتمتع بملامح رحمانية تريح النظر والروح معاً، أول حديث بادرت به الطلاب أن قالت لهم كل الناس لديهم أم واحدة إلا طلاب المدارس لديهم أم في البيت، وأم ثانية ترعاهم وتهتم بشؤونهم في المدرسة، ولم تدر تلك الطفلة كيف انقلب حالها وسرت في روحها حالة من الغبطة والحبور فتعلقت بهذه المعلمة وأصبحت أسيرة كل كلمة تقولها، وكل تصرف تقوم به، وكان الطلاب جميعاً يعيشون هذه الحالة ليكونوا أمامها كما صفحة بيضاء تغمرهم السعادة وهم ينصتون لحديثها معهم وتوجيهاتها لهم.
كثيراً ما كانت تلك المعلمة تخبر الطلاب عن أهمية الدراسة كوسيلة للمستقبل الجميل الذي ينتظرهم، وأهم من ذلك أنها كانت مربية لهم بالتوازي مع الدروس المخصصة في المنهاج، فكانت تزين أرواحهم بالحب، وتولع فيهم جذوة الاجتهاد، ومع كل درس تفسح في قلوبهم حيزاً لانبثاق حلم، كانت كغمامة من بهاء الحياة مدركة لحجم رسالتها التربوية والتعليمية التي ترجمتها عبر تعاملها مع الأطفال بكل أمانة، ولم تقتصر مهمتها على هذه السنة الدراسية فقط، بل استمرت معهم سنوات طويلة بحكم استلامها لإدارة المدرسة، ومن شدة تعلق تلك الطفلة بها انتقلت معها إلى مدرسة أخرى دون أن تخبر أهلها، لقناعتها أن تلك المدرّسة هي الوحيدة المعنية بالدراسة، فمعها تعلمت هي وكل الطالبات زميلاتها معنى القيم والمثل التي كانت تلقنهم إياها مع الدروس، رغم أنه كانت لهم مشاغباتهم التي لم تتجاوز حدود براءتهم، واستمر مشوارهم مع تلك المدرّسة حتى أنهوا المرحلة الابتدائية، لكنهم كانوا ينتهزون أي فرصة ليلتقوا معها ويعيشوا فرحهم بحياة هي من غرس في وجدانهم قيمها ومفاهيمها، وكانت كلماتها رفيقة أحلامهم، ينظرون للغد بعين التفاؤل والرضى، وكأنهم قبضوا على الحياة كلها دفعة واحدة.. لقد كانت تلك الأيام هي الأجمل والأنقى في عمر هؤلاء الطلاب، لأنهم بعدها غرقوا في إشكالات الحياة ومتاهاتها.
اليوم وبمناسبة يوم المعلم تطل هذه المربية من الغياب في ذكراها التي تزامنت مع الاحتفال بعيد المعلم ليستعيد معها طلابها الذين لازالوا ممتنين لفضلها أطياف حلم نسجت خيوطه بشغف تعشق روحها، ورهنت له حياتها.. اليوم يستحضرونها في ذاكرتهم نموذجاً للعطاء والتفاني الذي نفتقده لدى الكثير من كادرنا التدريسي، وليبقى ذكرها تجسيداً للمحبة التي تحدث عنها جبران خليل جبران: “إذا أنت أحببت لا تقل الله في قلبي، لكن قل أنا في قلبي الله” وهذه المعلمة الجليلة كان حب الله يملأ قلبها.