لماذا تدعم المؤسسة العسكرية الرئيس المنتخب؟! لا مدى لحماية الولايات المتحدة مكانتها كقوة عظمى عالمية وبايدن الآن الرجل الأشد خطراً في العالم!!
“البعث لأسبوعية” ــ عناية ناصر
تتنفس المؤسسة العسكرية الأمريكية الصعداء بعد فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية، فقد أرسل ما يقرب من 800 من كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين السابقين خطاباً مفتوحاً لدعم المرشح الديمقراطي خلال حملته، أيدوه فيه باعتباره أفضل رهان لإحياء القوة الأمريكية. وقبل أكثر من شهر، ألقى 70 من مسؤولي الأمن القومي، الذين خدموا في الإدارات الجمهورية، بثقلهم وراء بايدن (القائمة سرعان ما زادت إلى 130)، بحجة أن ترامب “خذل أمريكا” في السياسة الخارجية.
لماذا كان بايدن المرشح المفضل لمجرمي الحرب؟ كانت فوضى السياسة الخارجية والجدل، خلال سنوات ترامب، من أعراض التراجع النسبي للقوة العظمى العالمية، مع عدم وجود استراتيجية واضحة للخروج من مستنقع نقطة تحول الإمبراطورية الأمريكية. إنها القوة العظمى بلا منازع في العالم، انتشارها عالمي، عسكرياً واقتصادياً، وتعد أكبر اقتصاد في العالم، منذ العام 1871، ولدى جيشها ما يقرب من 800 قاعدة في 80 دولة حول العالم، لكنها تواجه اليوم منافساً اقتصادياً صاعداً هو الصين، وتتحدى العديد من القوى قدرتها على شغل الصدارة في كل ركن من أركان العالم، وأبرزها إيران وروسيا. وأسفرت الحرب على الإرهاب، التي أطلقتها إدارة جورج دبليو بوش، عن غزو أفغانستان في عام 2001، والعراق في عام 2003، وقتلت أكثر من مليون شخص، وكلّفت أكثر من 2.4 تريليون دولار، وفقاً لمكتب الميزانية في الكونغرس؛ وكانت بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط بمثابة مذبحة، أما بالنسبة للإمبراطورية الأمريكية فقد كانت كارثة، إذ أدت زعزعة استقرار العراق إلى توسع النفوذ الإيراني عبر المنطقة، بدلاً من “تغيير النظام” في طهران الذي كان يحلم به البنتاغون. كان الهدف من التدخل في العراق ضمان الهيمنة الأمريكية، وبدلاً من ذلك، كشف النقاب عن نقاط ضعف وحدود القوة الأمريكية في وقت بدأ التوسع الاقتصادي الدراماتيكي للصين.
تصاعدت التوترات بين الولايات المتحدة والصين منذ سنوات، فمنذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، في العام 2001، بنت الصين قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية، في حين إن الولايات المتحدة غرقت في حروب لا نهاية لها، وعانت من أزمة اقتصادية وكساد مع الأزمة المالية لعام 2008. كان “توجه باراك أوباما نحو آسيا”، مع خطته لزيادة القوات البحرية الأمريكية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، إشارة إلى أن الطبقة السائدة في الولايات المتحدة تريد احتواء الصين وتطويقها. كانت “عقيدة أوباما” – المشتملة آنذاك على افتراض معركة في الجو والبحر – محاولة لوضع خطة عملياتية لمواجهة عسكرية محتملة. وكشفت البرقيات المسربة التي نشرها موقع “ويكيليكس” أن أستراليا كانت متوافقة مع الاستراتيجية الإمبريالية الأمريكية؛ ففي محادثة مع وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، في عام 2009، أكد رئيس الوزراء كيفين رود استعداد أستراليا لـ “نشر القوة إن سارت الأمور على ما يرام”. لكن استراتيجية أوباما كانت أضعف، وجاءت بعد فوات الأوان لاحتواء الصين. لقد أصبحت الصين أكثر قوة في مطالباتها الملحة في بحر الصين الجنوبي، في وقت بدأت بسد الفجوة الهائلة في القدرات مع الولايات المتحدة، حيث شاركت في أسرع حشد أسلحة في وقت السلم في التاريخ.
في عهد ترامب، ازدادت هذه التوترات، فقد كان خطاب ترامب في المواجهة والحرب التجارية انحرافاً حاداً عن استراتيجية الولايات المتحدة المستمرة منذ عقود لدمج الصين في النظام الليبرالي الدولي. ومنذ الإدارة الجمهورية لريتشارد نيكسون – الذي كان في عام 1972 أول رئيس أمريكي يزور بكين – اعتقدت الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة أنها يمكن أن تضمن السيادة العالمية من خلال دمج الصين في النظام العالمي، ولبعض الوقت، بدا أن هذا الاعتقاد ينجح.
أصبحت الصين، ورشة العمل المستهلكة في العالم، موقعاً رئيسياً للاستثمار للشركات الأمريكية مثل “آبل” و”جنرال موتورز”، لكن الاستراتيجية يمكن أن تكون مفيدة بشكل متبادل، ولفترة فقط. واليوم، تستفيد الصين من نموها السريع لتحدي قيادة الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. كانت استراتيجية الاحتواء المميزة لأوباما هي الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، والتي كان من الممكن أن تكون أكبر صفقة تجارة حرة في التاريخ، إذ خفضت التعريفات الجمركية، وغيرها من الحواجز غير الجمركية، أمام التجارة بين إحدى عشرة دولة من دول المحيط الهادئ والولايات المتحدة، وكان هدفها هو عزل الصين وزيادة اندماج دول المحيط الهادئ في الاقتصاد الأمريكي. وقال وزير دفاع أوباما، أشتون كارتر، إن الشراكة عبر المحيط الهادئ كانت “بالأهمية نفسها.. لحاملة طائرات أخرى”، لكن بعد سنوات قليلة فقط، مزّق دونالد ترامب الشراكة عبر المحيط الهادئ، وكانت هذه الخطوة على خلاف مع الإجماع بين النخبة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية. كانت لدى الرئيس الجديد أفكاره الخاصة حول كيفية احتواء الصين. انتقد ترامب العجز التجاري الأمريكي، واتهم بكين بالتلاعب بالعملة، و – كما فعل أوباما – بسرقة التكنولوجيا من الشركات الأمريكية، وقال في خطاب “حالة الاتحاد”، لعام 2019: “نحن الآن نوضح للصين أنه بعد سنوات من استهداف صناعاتنا وسرقة ملكيتنا الفكرية، انتهت سرقة الوظائف والثروة الأمريكية”.
بحلول آب من العام الماضي 2020، فرض ترامب تعريفة جمركية على 550 مليار دولار من السلع الصينية، مع حملة مستهدفة ضد شركة التكنولوجيا العملاقة “هواوي”، التي كان من المتوقع أن تتفوق على “أبل” في مبيعات الهواتف العالمية. وفي حين أن السياسيين الجمهوريين والديمقراطيين قد دعموا نهجاً متشدداً تجاه الصين، فإن نهج ترامب الحمائي، وغير المنتظم، في التجارة، أدى إلى نفور قطاعات كبيرة من الطبقة الرأسمالية التي كانت سعيدة بالتخفيضات الضريبية المحلية وإلغاء القيود؛ ويقدر تقرير “بلومبيرغ إيكونوميكس”، الذي صدر قبل أن يجتاح الوباء أمريكا، أن الرسوم الجمركية المتصاعدة على الصين ستكلف الاقتصاد الأمريكي 316 مليار دولار بحلول نهاية العام 2020.
الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة للمؤسسة الأمريكية هو أن ترامب تبنى موقفاً متشدداً تجاه حلفاء الولايات المتحدة، ولا سيما الاتحاد الأوروبي. كان ترامب يفخر بقدرته على إبرام الصفقات مع الدول الأخرى التي تفضل الولايات المتحدة، وأشار إلى أن النهج متعدد الأطراف في التجارة قد انتهى عندما “مزق” الشراكة عبر المحيط الهادئ، وأتبع ذلك تطبيق التعريفات الجمركية على السيارات الألمانية والصلب الكندي والسلع الفاخرة الفرنسية. بالنسبة للكثير من النخبة الأمريكية، خلقت هذه التحركات ببساطة فراغاً حاولت بكين ملؤه بصفقات التجارة الحرة الخاصة بها، و”مبادرة الحزام والطريق” التي تبلغ قيمتها تريليون دولار، والتي تهدف إلى دمج أكثر من 138 دولة في طرق التجارة وسلاسل الإنتاج المتمركزة في الصين.
يظهر صندوق النقد الدولي، ومنظمة حلف شمال الأطلسي، والأمم المتحدة، ومؤسسات دولية أخرى، الهيمنة الأمريكية من خلال جذب الدول الحليفة وراء القيادة الأمريكية، لكن رئاسة ترامب حاولت نزع شرعية هذه المؤسسات، أو تهميشها، لأنها ركزت على موقف “أمريكا أولاً”. وتعتقد المؤسسة العسكرية أن ذلك قد هدد، ولم يعزز، القوة الأمريكية، على الرغم من وجود اعتراف الآن بأن هذه المؤسسات فشلت في إبقاء الصين تحت السيطرة، وهو أمر ستتعامل معه رئاسة بايدن أيضاً. ويأمل مجرمو الحرب أن يستعيد بايدن الشرعية السياسية لمنصبه من خلال إعادة تأهيل الأيديولوجية الليبرالية التي تدعم الإمبريالية الأمريكية، والترويج للعدوان الأمريكي باعتباره ضرورياً “لجعل العالم آمناً للديمقراطية”، والدفاع عن “النظام العالمي الليبرالي”. وقبل كل شيء، تأمل المؤسسة الأمريكية في أن يستعيد بايدن العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة ويقيم تحالفاً من الدول لمواجهة الصين، بعد أربع سنوات كارثية أدت إلى التشكيك في القيادة الأمريكية العالمية، كما عبر عن ذلك قادة الأمن القومي لبايدن في خطاب مفتوح: “لم يعد حلفاؤنا يثقون بنا أو يحترموننا، ولم يعد أعداؤنا يخشوننا”.
يتمتع بايدن بسجل مؤكد كمدافع متشدد عن إمبراطورية الولايات المتحدة؛ فعلى مدى عقود، عمل في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وكان من أوائل المؤيدين لتوسيع الناتو لإبراز نفوذ الولايات المتحدة في الكتلة الشرقية السابقة – بعد سقوط الاتحاد السوفييتي – وأيد التدخل الأمريكي في حرب البلقان، ودعم غزو أفغانستان في عام 2001، وصوت لصالح الحرب على العراق في عام 2003، وكنائب للرئيس، دعم التدخل الأمريكي في ليبيا. وهناك إجماع داخل الطبقة السائدة في الولايات المتحدة حول الحاجة إلى “التشدد” مع الصين. وتتوقع المؤسسة العسكرية من بايدن أن يكرس ذلك، فخلال حملته الانتخابية، اتهم ترامب بـ “أنه يلعب لصالح” الرئيس الصيني شي جين بينغ . وهذا يتفق مع ممارسات الحزب الديمقراطي في الكونغرس، والتي تتمثل في انتقاد ترامب لعدم كونه صارماً بما يكفي. وعلى سبيل المثال، اتهم زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، ترامب بـ “التفريط” من خلال إبرام صفقة تجارية مع الصين. قاد شومر أيضاً تشريعات لتنفيذ الحظر على “هواوي” عندما بدا أن ترامب يتراجع عن ذلك. ومنذ أيامه الأولى في الكونغرس، صنع بايدن اسماً لنفسه كمؤيد قوي لإسرائيل. وبحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية، يقال إن بايدن لديه “صداقة حقيقية” مع رئيس وزراء إسرائيل اليميني المتطرف بنيامين نتنياهو. وكان بايدن نائباً للرئيس عندما وقعت الولايات المتحدة مع نتنياهو صفقة مساعدات عسكرية بقيمة 38 مليار دولار، والتي وصفتها وزارة الخارجية الأمريكية بأنها “أكبر التزام للمساعدة العسكرية الثنائية في تاريخ الولايات المتحدة”. لذلك، بينما دفع ترامب الخطاب المؤيد لإسرائيل بعيداً إلى اليمين، متخلياً عن أي تظاهر بدعم الدولة الفلسطينية، وضع بايدن الأـمور في نصابها عندما تعلق الأمر بدعم الفصل العنصري الإسرائيلي في فلسطين.
وفيما يتعلق بأفغانستان، قد يثبت بايدن أنه على يمين ترامب، وكنائب للرئيس، أيد الوجود العسكري الأمريكي الدائم هناك. بالمقابل، صدم ترامب الجيش الأمريكي عندما أعلن على تويتر أنه يريد خروج جميع القوات بحلول عيد الميلاد. في المقابل، قال بايدن في مقابلة مع صحيفة “ستارز آند سترايبس” العسكرية، إنه سيحتفظ بوجود قوات في أفغانستان والعراق. يستطيع المناهضون للإمبريالية الحكم على بايدن من خلال سجله الملطخ بالدماء في الكونغرس؛ ولقد دعم الجزء الأكبر من المؤسسة العسكرية الأمريكية بايدن، على وجه التحديد، لأنهم يعتقدون أن نهجه متعدد الأطراف سيعيد المصداقية إلى التدخلات الأمريكية. ولهذا السبب، توقع لورين طومسون، كبير المحللين في مجلة “فوربس”، قبل شهرين إنه “خلال رئاسة بايدن.. من المرجح أن تُستخدم القوات العسكرية الأمريكية في الخارج أكثر مما كان عليه الأمر مع الرئيس ترامب”.
تواجه الرأسمالية العالمية أزمة عميقة تعيد تشكيل العلاقات الدولية، وتضغط على خطوط الصدع في الصراعات القائمة؛ وسوف يكون التنافس الإمبريالي المفتوح سمة من سمات الفترة المقبلة، إلى جانب الحروب والنزاعات الإقليمية؛ ولن يكون هناك مدى لذهاب الطبقة السائدة في الولايات المتحدة لحماية مكانتها كقوة عظمى عالمية، وجو بايدن هو القائد العام للقوات المسلحة.. إنه الآن الرجل الأشد خطراً في العالم.