انعدام المساواة هو النقطة العمياء للظاهرة الترامبية!!
“البعث الأسبوعية” ــ تقارير
صدم الجميع بالأحداث، ولكن ما الذي يغيب حتى الآن لجهة تحليل الأسباب؟ إنها العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تنهض عليها هذه الأزمة التاريخية. لقد تكررت تعليقات وملاحظات لا حصر لها، وقرأنا أن هذا “الغزو القوقازي المحافظ” هو من عمل اليمين المتطرف الذي يتم تلقينه على يد قوميين بيض، وأن ذلك كان نتيجة أربع سنوات من الحقائق البديلة والتآمر. ولكن، ماذا عن العواقب الاجتماعية للسياسات المنفذة؟ هل لاحظنا أن هؤلاء المتظاهرين من الطبقات الشعبية، وليس من الطبقات العليا؟ إن للتطرف دائماً قاعدته الاقتصادية، وفي مجتمع مزدهر تحت ظلال المساواة ليست هناك مثل هذه الاختلالات.
منذ العام 2009، شهدت الولايات المتحدة الأمريكية أزمة اجتماعية متسارعة، ومن بين قرابة الـ 49 مليون أمريكي الذين كانوا في “مطبخ الحساء” قبل 10 سنوات، لا يزال هناك 38 مليون اليوم، وأولئك الذين وجدوا عملاً إنما عثروا عليه بأجور جدّ متدنية، ومقابل فرص عمال ضئيلة ومتراكمة. ومنذ 12 عاماً وحتى الآن، يشجع البنك المركزي أسواق المال، ما خلق فجوة هائلة في الثروة بين أصحاب الأسهم وأصحاب الرواتب البسطاء. وإذا كان ذلك لا يعني إنكار التطرف الأيديولوجي لمتظاهري الكابيتول هيل، إلا أن علينا أن ندرك أن هؤلاء ليسوا مجرد “أنصار ترامب”. لقد وجدوا قبل انتخابه، وكان هو فقط كاشفاً للإحباط الاجتماعي.
رغم ذلك، لم تتم الإحالة إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية، حيث لم ترتفع الأجور الحقيقية للعمال الذكور منذ 40 عاماً، بل وتراجعت بين عامي 1979 و2019، بالنسبة لـ 90٪ من أصحاب الدخول الدنيا. وعلى العكس، فقد سجلت سوق الأسهم 38 ضعفاً خلال الفترة نفسها، وزادت أربعة أضعاف منذ 2009. في غضون ذلك، وبينما يمتلك 10٪ من أصحاب الدخول العليا أكثر من 88٪ من قيمة الأسهم، لا تتجاوز ملكية 90٪ من العائلات 12٪ منها، أما بالنسبة لأغنى 1٪ من الأمريكيين، فهم يمتلكون أكثر من 50٪ من قيمة الأسهم، منذ عام 1990. وعلى الرغم من انهيار الإنترنت عام 2000، وأزمة 2008، فقد نمت سوق الولايات المتحدة عشرة أضعاف منذ عام 1990، وذهب الجزء الأكبر من المكاسب إلى الشرائح الأغنى”؛ وجاء الإفراط في المديونية، والعمالة المتقطعة، وارتفاع أسعار الأسهم، ليشكل حواجز عديدة أمام مشاركة الطبقات الشعبية في مهرجان البورصة.
في مواجهة المشاهد المروعة للكابيتول هيل، ننسى أن أمريكا – في 90٪ منها – تعاني من فجوة لا مثيل لها من حيث انعدام المساواة، ولا جدال بأن الأحداث التي تعيشها أمريكا اليوم تتصل بالاختلالات الاجتماعية غير المسبوقة منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ففي هذا البلاد، تدفع الأسر الـ 400 الأغنى ضرائب أقل من 50٪ من أفقر الأسر، في حين أن كتلة الموظفين، بسبب الافتقار إلى القوة الشرائية، تدفع إلى أن تصبح مثقلة بالديون وتراكم وظائف غير مؤمنة.
تزايد عدم المساواة في أمريكا هو النقطة العمياء لظاهرة ترامب. والنأي عن هذه الحقيقة يمثل مشكلة. سيرد البعض بأن المتظاهرين لا يهتفون: “يجب إعادة توزيع الثروة!”، لكن الخطأ يكمن في الاعتقاد بأن الشعارات المرفوعة ستحلل المشكلة من وجهة نظر أكاديمية.. لا، الشعارات هي بالأحرى مؤشرات على رفض الأجانب والنخب والعولمة، وهي ليست مجرد شر محض، وغباء، ومؤامرة، وكراهية لا مبرر لها.
يجب العودة إلى السؤال الأصلي: لماذا هذا الاستعداد للسير خلف زعيم شعبوي مجنون، تغريه الدكتاتورية؟ كان هناك في الماضي مرشحون مثل ترامب، لكن لم تكن لديهم منصة الإطلاق نفسها، والصدى نفسه، فما الذي جعل الرجل يجد جمهوره هذه المرة؟ هل يعتمد هذا الخيار، وهذا السخط، على شخص ترامب؟ أم على تأثير وسائل التواصل الاجتماعي؟ بالطبع لا. ولكن: كيف جاء هذا الجزء من أمريكا ليسحب إلى الحضيض ثقته بالمؤسسات.
لم يكن الأمر لينتظر انتخاب ترامب، أو رزوح الكابيتول تحت الحصار، لطرح هذه الأسئلة؛ ففي بلدان تسود فيها المساواة مثل السويد، قال 64٪ نعم، بينما هم أقل من 38٪ في الولايات المتحدة.. الفرق كبير. وهذا المؤشر يختلف على وجه التحديد بسبب التفاوت في الدخل. حتى داخل الولايات المتحدة، فإن الولايات الأكثر تفاوتاً هي تلك التي تكون الثقة المتبادلة فيها هي الأدنى. داكوتا الشمالية مثل السويد 67٪، لكن الثقة تنخفض إلى 17٪ في ميسيسيبي (ولاية مؤيدة بقوة لترامب في انتخابات 2016 و2020).
لقد شرح الاقتصاديون وعلماء الاجتماع ولأوبئة الاجتماعية كيف أن العيش في بلد تتفاقم فيه التفاوتات الاجتماعية يجعلك تختبر شكلاً من العار، وكيف يرتبط ذلك مباشرة بانخفاض الثقة بالعالم عامة. هؤلاء الأفراد لا يرتابون فقط بالمؤسسة أو الإعلام أو رجال السياسة، هم يشككون بكل من هو آخر، ويغلقون منازلهم بأقفال مزدوجة، ويسلحون أنفسهم حتى الأسنان، ويشترون كلاباً للقتال.. لقد ازدهر ترامب على هذه الأرض.
هناك تدهور حقيقي في رأس المال الاجتماعي النفيس، المتمثل بالثقة، على مدار 60 عاماً، وقد تراجعت الثقة بالحكومات والمؤسسات العامة، على الأخص منذ العام 2009.. إن أمريكا ليست كاليفورنيا فقط، والأمريكيون يرون أنفسهم أقل فأقل في إطار مصير مشترك. وبغض النظر عن أية استنتاجات، يجب أن يتفق الجميع على أن أمريكا في أزمة.