غسان كنفاني.. برتقال فلسطين الدامي
في سهل عكا شمال فلسطين المحتلة، وفي الثامن من شهر نيسان عام 1936، ولد الكاتب والأديب والصحفي العربي الفلسطيني غسان كنفاني، الأب والمؤسّس لأدب القضية الفلسطينية، والذي تحلّ في هذه اليوم الذكرى الـ 85 لولادته.
بين ظلال أشجار برتقال يافا، في حي “المنشية”، عاش وتربى حتى عام 1948، التاريخ الداكن الظلال، والذي ترك في وجدان ووعي ابن الثانية عشرة من العمر، حملاً ثقيلاً من صور الموت والخراب لملاعب الطفولة التي تحفر في دواخل الإنسان عموماً أثراً يرافقه مدى الحياة، ليحمل صخرته الثقيلة على درب الجلجلة الفلسطيني الطويل، أنّى ارتحل وحلّ، من بيروت في خيام اللجوء المريرة، إلى دمشق التي درس في مدارسها وجامعاتها، وفيها تشكّل نضجه الفكري ومناخه الأدبي؛ عواصم حفرت أثرها الوجودي في تشكيل العوالم الفكرية والحسية لصاحب “أرض البرتقال الحزين” –رواية- 1963- ومن دمشق أم البدايات، بدأت تلك الرحلة الملحمية في تفاصيلها، رغم زمنها القصير نسبياً.
أشهَرَ مؤلف “رجال في الشمس”– رواية، 1963 – سلاحه الفكري والأدبي والصحفي، في وجه الكيان الصهيوني المحتل، مبتكراً أدباً جديداً ارتبط باسم القضية الفلسطينية ارتباطاً لا فصام له، ليصبح هذا الأدب، بحراً تصبّ فيه أنهار أدبية وفكرية لا تُحصى من الشرق والغرب، وطريقاً شاقاً وأليفاً في آن لكل فلسطيني وعربي، قضية فلسطين هي بوصلته وطريقه ومآل طموحه، الأمر الذي شكّل رعباً غير مسبوق عند الكيان الصهيوني، وكان الدافع الأساسي لاغتياله على أيدي عصابات الموساد، فلم يحدث أن أرعب كاتب فلسطيني هذا الكيان الغاصب كما أرعبه صاحب رواية “أم سعد”، خصوصاً وأن مؤلفات كنفاني سواء الأدبية أو مقالاته السياسية، كانت بمثابة منشورات تحرّض على مقاومته ودحره.
تقنياً، تحمل أعمال صاحب “عائد إلى حيفا” – رواية، 1970 – بذور خلودها، فهي وإن كانت مرتبطة بالقضية الفلسطينية ومفرداتها التي جعلها هذا الأديب الفذّ حاضرة في معظم نتاجه الأدبي، إلا أنها أيضاً تحقّق شروط العمل الأدبي الممتع: معالجة متقنة للشخصيات، حوار رشيق وحمّال أوجه، الواقعية شكله والرمزية مذهبه، حبكات منضبطة ومدروسة في زمن تقديمها خلال السياق العام للرواية أو القصة، وهذا البناء المتكامل هو ما يجعل الفكرة التي يقدّمها قوية لا ترّد، وبالتالي فإن قوة تأثيرها أيضاً لا ترّد.
لم ينل النتاج الأدبي الروائي والقصصي لأديب عربي من نقد وقراءة وتحليل وتشريح أيضاً، ما ناله نتاج مؤلف “موت سرير رقم 12” – 1961 – عشرات الكتب النقدية والتحليلية، مئات الدراسات المتخصّصة، ألوف المقالات النقدية، ترجمات لأعماله لأكثر من 20 لغة عالمية، وكلّ من خاض في هذا النتاج من النقاد العرب والأجانب، وجد أن العبقرية لا الموهبة هي محركه الرئيسي ومفاعله الأدبي والفكري الحيوي، وهي من تقف خلف أهم ما كتبه في الرواية والقصة العربية الحديثة، فنصوص كنفاني تنطوي على إمكانية لا متناهية في توليد معانيها، أيضاً من الأشياء المهمّة في أدب صاحب “عالم ليس لنا” –مجموعة قصصية – أن هذا الأدب ورغم ارتباطه العضوي بالقضية الفلسطينية، إلا أن انتفاء وجودها لا يعني أن يسقط أدبه، فشخصيات كنفاني بنت الحياة، ظروفها منفعلة من واقعها، ورغم ذلك فإن بناءها بناء بمقاييس عالمية إن صح التعبير، ما يجعلها أيضاً شخصيات في أدب عالمي.
من الأشياء اللافتة للانتباه أيضاً، وهي أيضاً مؤشر حيوي على طبيعة المجتمع العربي، أنه وعلى الرغم من كل الدراسات والترجمات والقراءات والتحليلات والندوات، والأعمال الدرامية السينمائية منها والمسرحية والتلفزيونية والإذاعية، التي اتكأت على نتاجه الأدبي وعلى حياته الاجتماعية أيضاً فيما ذهبت لتقديمه، وذلك على مدى أكثر من النصف قرن على رحيله المدوي عام 1972 لم تحوّله هو أو أدبه “كليشيه”، ففي الذكرى السابقة لميلاده، حقّقت كتبه أعلى نسبة مبيع في سوق القراءة العربي، وهذا مؤشر ودال في سياقات المجتمع العربي، المحكوم من قِبل الميديا الغربية ومن يدور في فلكها من القنوات العربية، بأنه شعب متفرق القلب.
ورغم ما يقال أو السائد بأن انتماء غسان السياسي وشغله لمنصب الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونشاطه السياسي والميداني، هو السبب الذي يقف خلف اغتياله من قبل عملاء الموساد الإسرائيلي في بيروت 1972، عن عمر 36 عاماً، -تمّ اغتياله ولميس ابنة أخته بسيارة مفخخة- وإن يكن أحد أسباب هذا الاغتيال، إلا أن السبب الحقيقي كامن في عظمته كروائي وكاتب، وخطورة أدبه الذي يُعدي بالنضال أين وصل، وإن كان الإنسان يموت في أعماله، فالموت الطبيعي كان لغسان كنفاني الشهادة.
غسان كنفاني في ذكرى ميلاده الـ85، مرّ كشهاب وعاش كشمس، حتى صار وبرتقال يافا الدامي وجهين لقضية واحدة.
تمّام علي بركات