ثقافةصحيفة البعث

محمد حجازي وشعرية الوجدان اليومي

تشتبك الحالة كمحور في شعرية النثر الفني من خلال النصوص التي يكتبها الشاعر محمد حجازي، لتخبرنا عن وجدانات الدلالة بمكوّناتها المكانية والنفسية والزمانية، وما تعكسه من حياة يومية تمرّ من الذات إلى الذات عبوراً بالواقع المحيط، لتجعل من المفردة العادية مسافة شعرية تتشابك مع المفردات الأخرى، ضمن صياغة نسقية، تسير ببساطة سردية، أو حكائية، أو بوحية، لكنها تصطدم بشعريتها كلما خرجت بمشهديتها عن المألوف؛ وهذه الثيمة الفنية أحد أسرار قصيدة النثر، وتختلف كيفية بنائها النسقي تبعاً لدواخل كل شاعر وثقافته وتعامله مع الجماليات الشعرية المتنوعة.

صورة ترتطم بحواسها

إضافة إلى تمحور قصيدة حجازي على الصورة المشهدية، كوحدة صغرى، وعلى الحكائية كوحدة كبرى تضمّ النص الشعري ككل، نلاحظ عاملاً فنياً آخر يرتكز على ارتطام الدالة بحواسها الأولى، ثم ارتطامها بحواس القصيدة، ما يساهم في تحويل اللحظة العادية إلى حيّز شعري، ينبني على مقارنة التشابه وقياس الحالة، كما في عنوان “قصة مدينتين”، المشيرة إلى عوالم تشارلز ديكنز، كما يتحرك في مجالات أخرى عندما يكون النبض الوجداني حاضراً برومانسية، كما في قصائده عموماً.

ولا تتوانى أعماق الشاعر عن البوح الدائم معتمداً على ثيمة الحب كموضوع يظل يتسع بين الطرفين كشخصيتين بطلتين للقصيدة، لكن، من منظور الشاعر الذي يترك لأناهُ البوح والإسقاط والتفتيت ليعيد تركيب الملامح بكلمات لا ترغب في الحضور ضمن النسق، مثل: “أسعل بك”، والسعال مرض وحالة نفاثة، ولا يمكن أن يقبل الشاعر أن تسعل به بطلة الحب في قصيدته مهما بلغ خجلها.

سيناريو الرموز

من وجهة أخرى للمعنى الفني، فإننا نلمس في تلك العفوية بساطة تدعو إلى العمق في قصائد أخرى، منها تلك القصيدة التي تطرح تساؤلاته من خلال “هل”، وما بعدها، الموجّهة إلى ضمير المخاطب – القارئ، ليترك الشاعر مع أداة الاستفهام “هل” نصف السؤال، بينما نصف الجواب يظل مضمراً بين ضميره الأنوي وضمائر قصيدته الموزّعة إلى شخوص وكائنات وموجودات: “هل سمعت عن غابة تجيء إليك، وتحمل معها كل إرهاب الغابات؟”، بينما تتخذ هذه الأداة فنياتها التي تشبه الوتر الذي لعب عليه شارل بودلير في “أزهار الشر”، ليستخلص من القبح الجمال. مثل هذه الصورة المشهدية لحجازي: “هل حصل معك أنك تعثرت بجثتك، حينما كانت امرأة ما تقوم بتشريح روحك، ويدها المبللة بالموسيقا، ما تزال تعزف على شرايينك؟”، تنجز هذه الصورة السيناريو المناسب الذي يفلسف على منصة ما الموت والحب والموسيقا معاً، ولاسيما عندما يصطدم الشاعر بجثته، ما يوحي برمزية فنية تجعل الحيّ ميتاً، والميت حياً، وذلك من خلال ضمير الأنا المتحولة إلى ضمير المخاطب “أنت”، لتكون كقارئ شريكاً متفاعلاً مع الحدث الشعري الذي يكتمل بالمشرحة ويد المحبوبة العازفة، وتبقى الشرايين آلات موسيقية تمزج الحالة العشقية بأقصاها.

متلازمة العشق

بمتلازمة العشق التي تتكرّر ثلاثاً، تذهب بنا القصيدة إلى أمواج الأنثى الجوهرية الحلبية والسورية لتتكلّل بالغار والانتصار، ليركز حجازي على الصبر والمثابرة والعطاء والرعاية والتشبّث بالوطن وأهله، جامعاً بين الأنثى السورية الأولى التي تحضر الآلهة، والأنثى التي تقاوم الوجه الشرير من الحياة “ترش الزيت والزعتر على رغيف البيادر، وتملأ فراغات الزمن بالكبرياء”، والأنثى التي يختتم بها القصيدة وتجمع ملامح من سبقها من الإناث باعتزاز واستمرارية، فتبدو ملامحها أجمل من لوحة “الجوكنده” وهي تترك حيرة صبرها وعطائها رموزاً أخرى غير مكتشفة، لكنها ترسم عالمها في صورة مشهدية واحدة: “أعشق امرأة ولدت قبل التأريخ، وما زالت فتية، وحزينة، وعظيمة”. وبإمكاننا إسقاط الرموز المؤنثة وصورها على الواقع الحياتي لتشكّل سلبيات الحرب والدمار والسعال والإرهاب، وإيجابيات الصمود والحياة والإصرار.

تناظرات دلالية

أمّا قصيدته “قصة مدينتين” فتنبع جمالياتها من المقارنة بين مدينة حلب الحالية بزمانها المعاصر وتهاويله العشرية، وبين مدينة حلب القديمة السابقة لعصرنا بجيل والمختبئة في ضمير والد الشاعر الذي يحكي لنا ماضي حلب من خلال حكيه عن أبيه، لنقارن بين حلب في ذاك الجيل، وحلب المتعبة الحالية الناهضة من الإرهاب والدمار إلى الانبعاث والانتصار.

تبدأ القصيدة بمشهدية تناظرية مقارنة بين الأب وحلب وعراقة الحنين: “حلب مدينة متعبة تشبه أبي. أبي رجل طاعن بالحنين، يلاحقني بعينيه، على شكل أسراب من الوجوه”، ولا يخلو هذا المشهد الذي تبدأ منه القصيدة من لوحات لونية تجمع وجوه أهالي حلب مثل أسراب الطيور، ثم تعود الإيقاعات إلى حكايتها اليومية التي تخبرنا عن الأب الذي يعمل منذ السابعة صباحاً وحتى العاشرة مساء، وكيف لايراهُ أبناؤه ومنهم الشاعر وهو يقبلهم لأنهم نيام، بينما ينزح المشهد الثالث إلى توصيف ما آل إليه والده، وكيف بدا التعب والعمر على ملامحه: “أبي خرج إلى التقاعد، فقد أسنانه، وجفّت عروق وجهه”، وهذه الجُمل البسيطة لصورة الأب إيقاع تمهيدي لنصل إلى المقارنة مع مدينة حلب ومعاناتها: “ينام مكوماً على نفسه مثل منزل مهدّم، وكذلك تنام حلب”، ولا يلبث أن تنتقل بنا المدينة إلى صور متنوعة الإيقاعات الحياتية لترمز إلى التشبث بالأرض من خلال حلب التي يكون فيها الأب غيمة ممطرة، والأم مثل الحارات العتيقة، والشاعر مثل زقاق ضيق، تعبر من خلاله وذاكرته ووجوده كل صور إخوته إلى المدينة القديمة، فتزداد أسراب الوجوه حضوراً، ويزداد الحاضر انغماساً بالماضي المتحضر.

نثر فني أم قصيدة نثر؟

لقد أصدر محمد حجازي مدير دار الكتب الوطنية بحلب مجموعتين: “خُنْ فيخون” موحياً على الهامش الأيسر من غلافها الأمامي بتصنيفها “نثر فني”، بينما يشير على الغلاف الأمامي لمجموعته “وجعان لقلب واحد” إلى “كلمات تشبه شيئاً ما”، وهو دقيق في هذه الإيحاءات، لأن أسلوبه يتمحور حول الحكائية الشعرية والنثر الفني وقصيدة النثر، إضافة إلى المشهدية الواقعية التصويرية والبعد الفلسفي.

غالية خوجة