مجلة البعث الأسبوعية

لماذا تعيد الـ بي بي سي سردية تبرئة مؤسس الخوذ البيضاء؟

“البعث الأسبوعية” ــ سمر سامي السمارة

تسببت وفاة مؤسس منظمة الخوذ البيضاء، البريطاني جيمس لو ميسورييه، الذي سقط من شرفة منزله في اسطنبول في ظروف غامضة، في تشرين الثاني 2019، بمشاكل خطيرة للغاية لعدد كبير من أصحاب النفوذ والسلطة الغربيين.

في ذلك الوقت، كانت العلاقات الحميمة بين منظمة “الخوذ البيضاء” والمجموعات المتطرفة تخضع للتحقيق والنشر على نطاق واسع، ويبدو أن دور المتطرفين – ولو ميسورييه من بينهم – الذي كان محورياً في شن هجمات كيميائية مزيفة وتعطيل تحقيق منظمة حظر الأسلحة اللاحق، المتعلق بالحوادث المزعومة، أصبح واضحاً بشكل متزايد. فقبل أيام قليلة من وفاته – أو مقتله -اعترف لو ميسورييه للحكومات الغربية التي تمول شركته “ماي داي”، وبالتالي “الخوذ البيضاء”، أن المزاعم واسعة الانتشار حول المخالفات المالية من جانبه كانت صحيحة.

للتخلص من الفوضى التي خلفها موت لو ميسورييه، قامت هيئة الإذاعة البريطانية بإعادة تجديد سردية البراءة التي وصلت إليها من خلال سلسلة التسجيلات المكونة من 15 جزءاً لـ “ماي داي”، والتي رفعت منزلة مؤسس الخوذ البيضاء البريطاني إلى مرتبة القديس العلماني، وأغرقت منتقديه في الوحل، وأخفت فضيحة التستر التي قامت بها منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أثناء تشويه سمعة المبلغين عن مخالفاتها، ورفعت من مكانة كلوي هادجيماتيو، مقدمة ومنتجة البرنامج، لتشغل مكانة بارزة في وسائل الإعلام المهيمنة.

ومع ذلك، فإن السلسة المشكوك في مصادرها، والممتلئة بالافتراءات، قد أثارت أسئلة أكثر بكثير مما قدمت أجوبة، وعلى رأسها طبيعة علاقة هادجيماتيو بالاستخبارات البريطانية، وبشركة “آرك” المتغللة في كل مكان، وهي شركة مقاولات غامضة حصدت ملايين الدولارات من خلال إطلاقها لعمليات حرب المعلومات السرية في جميع أنحاء العالم نيابة عن وايت هول، مركز السلطة السياسية البريطانية، ويركز الكثير من هذه الجهود على الحرب في سورية، وفي حالات كثيرة جداً كان لمشاريع الإعلام الحربي التابعة لشركة ” آرك” عواقب وخيمة على الأهالي والسكان المحليين الذين وظفتهم واستغلتهم واستهدفتهم.

 

صحفية الـ بي بي سي “غير المعروفة سابقاً”

أحدثت شركة “ماي داي” ضجة كبيرة عند بث السلسلة، إذ تلقت تعليقات إيجابية بشكل كبير من العديد من المنافذ الإخبارية وترويجاً واسع النطاق على تويتر من شخصيات بارزة. وأصبح منتج السلسلة بدوره، فجأة، “خبيراً” في وسائل الإعلام الرئيسية حول الخوذ البيضاء ومؤسسها.

يُعزى إحراز سلسلة التسجيلات للنجاح الكبير بين نخبة وسائل الإعلام البريطانية، جزئياً على الأقل، إلى أن إصدارها تأخر كثيراً بعد الترويج لها على وسائل التواصل الاجتماعي؛ ولأن صحيفة “الغارديان” البريطانية نشرت مقالاً من6000 كلمة حول سيرة القديس لو ميسورييه في 27 تشرين الأول 2020 ، أي قبل أسبوعين من بث الحلقة الأولى من سلسلة تسجيلات “ماي داي”.

غطى المقال، الذي قدمه مراسل” الغارديان” المخضرم في الشرق الأوسط مارتن تشولوف، والذي تتسم تغطيته للأحداث في سورية بالدعم الكبير لمشروع الغرب “لتغيير النظام”، العديد من المناطق ذاتها التي تغطيها منظمة “ماي داي”، حيث رسم صورة مثالية لـ لو ميسورييه، كما قام تبرئته من التهم كافة.

أشار العديد ممن شاركوا تشولوف في إغداق التبجيل على لو ميسورييه – بما في ذلك إليوت هيغينز، مؤسس ورئيس موقع التحقيقات مفتوحة المصدر، “بيلنغ كات”، الذي تموله الحكومة الأمريكية، وتتشارك به وزارة الخارجية البريطانية، وهي ممول أساسي لحملات الدعاية الفظيعة المتعلقة بالحرب على سورية – إلى سلسلة التسجيلات الوشيكة في إطرائهم لمقال “الغارديان”.

وقد حملت موجة الدعاية التي أحاطت بسلسلة التسجيلات هذه، قبل وبعد بثها، السمات المميزة كافة لحملة منسقة لإعادة تأهيل لو ميسورييه؛ وقد لا يكون من قبيل المصادفة أنه، في 18 تشرين الثاني، أي بعد أسبوع واحد فقط من وفاة مؤسس “الخوذ البيضاء”، أنشأ ألستير هاريس شركة جديدة حملت إسم “هوتش بوتش انترتينمنت” Hotch Potch Entertainment، في المملكة المتحدة.

وتشير وثائق تسجيل الشركة إلى طبيعة عملها في “إنتاج الصور المتحركة”، و”إنتاج البرامج التلفزيونية”؛ وهنا، لابد لنا من الإشارة إلى ورود اسم المؤسس الآخر للشركة، سايمون ويلسون، في قائمة ضباط جهاز الاستخبارات البريطاني، التي نُشرت عام 1999؛ وتشير سيرته الذاتية الرسمية إلى أنه كان من الممكن إرساله إلى العراق بالضبط في الوقت الذي عمل فيه لو ميسورييه كمستشار لوزير الداخلية في البلاد، في 2005.

وفي شباط 2021، تم حل شركة “هوتش بوتش” Hotch Potch، عندما كان من المقرر أن تقدم كشوفات مالية للمرة الأولى؛ ومن غير الواضح ما إذا كانت قد تلقت أو وزعت أموالاً خلال فترة عملها، على الرغم من أنه لن يكون مفاجئاً على الإطلاق إن كان الغرض منها رعاية و/أو إنتاج برامج حول لو ميسورييه.

بالإضافة إلى الثناء، أثارت “ماي داي” أيضاً ردود فعل حادة على الإنترنت؛ ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى نشر مراسلات هادجيماتيو قبل البث مع نقاد بارزين لـ “الخوذ البيضاء”، بما في ذلك الصحفية الكندية إيفا بارتليت، وفانيسا بيلي، وبول مكيج. وكشفت الاتصالات بشكل كبير أن الهدف الأساسي لـ “ماي داي” كان، منذ البداية، تشويه سمعة الصحفيين والباحثين المستقلين الذين طرحوا أسئلة حول لو ميسورييه.

رداً على وابل الانتقادات، أغلقت هادجيماتو حسابها على تويتر، لكنها قامت بتحديث سيرتها الذاتية المرفقة بعبارة “صحفية في بي بي سي غير معروفة سابقاً”. وباستثناء اقتباسات عرضية من مقالات إخبارية متعلقة بسلسلة التسجيلات، كانت هادجيماتيو خارج دائرة الاهتمام، مرة أخرى، حتى 27 شباط 2021 – أي بعد أربعة أيام من سحب رخصة شركة “هوتش بوتش” من سجل الشركات البريطانية – عندما نُشر مقال لها على موقع “بي بي سي نيوز”.

بلغ طول المقال 5000 كلمة، وهو أطول بكثير من المقالات التي تتناولها الـ “بي بي سي” منذ فترة طويلة، وقد أعادت من خلاله صياغة قصتها المحرفة عن لو ميسورييه “الشجاع الذي لا يرقى إليه الشك”، وصورته كمحارب قديم متمرس في المعركة انهار بطريقة ما تحت “هجمات تضليلية لا أساس لها”، عبر الإنترنت، ما دفعه للإقدام على الانتحار.

كان مقال هادجيماتيو التالي لموقع الإذاعة البريطانية التابع للحكومة البريطانية ، في 26 آذار، أطول حتى من ذلك المقال، وسردت من خلاله كيف وقع بول مكيج، الأستاذ في جامعة أدنبرة، في عملية التحقيق مع ما يسمى “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” – وهي منظمة عميلة تثور حولها شبهات كثيرة، وتعمل كذراع “قانونية” في خدمة الاستخبارات الغربية، الأمريكية والبريطانية، لتدبيج ملاحقات قضائية مختلفة لمسؤولين سوريين في المحاكم الغربية، بذريعة جرائم حرب مزعومة تدعي أنها ارتكبت خلال الأزمة، في عملية ملتوية ومعقدة.

وتجدر الإشارة الى أن “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” – التي تطلق على نفسها أنها “منظمة غير حكومية وغير ربحية مكرسة لتعزيز جهود العدالة الجنائية” – تلقت منذ العام 2013 ما يزيد عن 50 مليون دولار أمريكي، كتمويلات معلنة من الاتحاد الأوروبي وحكومات كندا والدنمارك وألمانيا وهولندا والنرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية؛ وكما وثق بن نورتون، الصحفي الاستقصائي المعروف عالميا على نطاق واسع، ويعمل في شبكة “ذا غراي زوون”، فإن “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” (..) “جبهة استخباراتة.. ترسي الأساس لاحتلال الولايات المتحدة وفرض عقوبات على سورية”.

بعد كل شيء، وضع اسم ويليام وايلي، مؤسس” لجنة العدالة والمساءلة الدولية” – والذي أُرسل إلى بغداد بين عامي 2005 و2008، وعمل هناك في وحدة الاتصال المعنية بـ “جرائم النظام” في السفارة الأمريكية – واسم شركته “تساموتا” Tsamota ، التي لها عنوان “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” نفسه، وتتقاسم الموظفين الرئيسيين مع “المنظمات غير الحكومية”، في تسريبات “أوراق بنما”.

علاوة على ذلك، نشرت “اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة” “فرقاً ميدانية ودربت محققين” في جميع أنحاء سورية لـ “جمع الوثائق الموجودة” من المقرات الحكومية في المناطق التي كانت تسيطر عليها العصابات المسلحة في البلاد، لاستخدامها في الملاحقات القضائية ضد السلطات السورية. وبحسب ما وثقه موقع “ذا غراي زوون”، عام 2019، تطلبت هذه العمليات تأمين الحماية الغربية لـ “لجنة الدولية للعدالة والمساءلة”، والمساعدة المقدمة من العديد من العصابات المسلحة والإرهابيين التكفيريين الذين ينشطون في هذه المناطق، بما في ذلك جبهة النصرة.

كانت لائحة الاتهام لمثل هذه الأنشطة غير موجودة في مقال صحفية الـ بي بي سي “غير المعروفة سابقًا”، كلوي هادجيماتيو، على الرغم من اعترافها بأن المكتب الأوروبي لمكافحة الاحتيال قد اتهم رسمياً “اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة” بالاحتيال و”تقديم وثائق مزورة وفواتير غير نظامية وتربح” فيما يتعلق بمشروع قدمته المنظمة في إطار ما يسمى “مشروع سيادة القانون” التابع للاتحاد الأوروبي ضد سورية، وأوصت السلطات في المملكة المتحدة وهولندا وبلجيكا بمقاضاة المجموعة.

ومع ذلك ، تجاهلت هادجيماتيو الإشارة إلى أن “اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة” هذه إنما نشأت من التعاون بين شركتي “آرك” و”تساموتا”.