مجلة البعث الأسبوعية

ليالي رمضان..  حين يتراقص ضوء القمر على فوانيس المسحراتية!!

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

“يا نايم.. وحّد الدايم”، بهذا النداء اللطيف المترافق مع قرع موسيقي مناسب على الطبلة الصغيرة، يوقظ “المسحّر” الناس ليتناولوا وجبة السحور في شهر رمضان المبارك، يكرر نداءه وهو يعبر الأزقة في مدينة حلب القديمة، ويتحرك بين الحارات، ولا يغادر إلاّ عندما يتأكد أن من يناديهم قد استيقظوا من خلال الإنارة التي تطل من شرفات وشبابيك البيوت، إضافة لتحيته التي ينالها من الذين استيقظوا، ولربما حمل له بعض الأطفال نصيبه من الطعام، وركضوا وراءه مستهدين بصوت الطبلة، مرددين معه ما ينشده من أناشيد دينية.

طقوس رمضان الإيجابية البعيدة عن السهرات الموسيقية في المطاعم، تجعل البنية الاجتماعية ملتفتة إلى طقسها الروحاني، وعوالمها التي لا تفكر فقط بالطعام والشراب، بقدر ما تفكر بمساعدة الآخرين، ما يجعلها بنية حياتية متماسكة، تعتمد على العفوية ومبدأ الخير والعطاء، وهذا ما تعكسه مشاهد المدينة التي تتحول إلى مرايا شفافة تعكس، أيضاً، تلك الأماكن التي لا تغادر الذاكرة.. هناك، ترى كيف يتوزع المسحرون الذين يقومون بهذه المهمة التطوعية مناطق المدينة، فهذا مسحّر باب النصر، وذاك مسحّر الهزازة وما حولها، وغيرهما مسحّر الجميلية، والسيد علي، وباب الحديد، وباب أنطاكية، والقلعة، والمشارقة، وساحة بزة، وضوضو، وسيف الدولة؛ ويبدو أن صفته مأخوذة من المنطقة المسؤول عن إيقاظ سكانها قريباً من منتصف الليل.  “المسحّر” من الشخصيات الرمضانية المعروفة والمشهورة في حلب، وسواها من المحافظات السورية وقُراها وأريافها، وهو شخصية تدعو إلى الفرح بملابسها الفلكلورية، غالباً، مثل شخصية بائع العرقسوس، وشخصية بائع التمر هندي، اللتين تقرعان الصحون النحاسية والفضية بعضها ببعض لتعزف برنّاتها إيقاعات موسيقية تدلّ على عبور هاتين الشخصيتين الجائلتين من المكان؛ وقد يكون بائع العرقسوس هو ذاته بائع التمر هندي، أمّا المشروبان المميزان فيعتبران من النكهات المفضلة لإطفاء العطش كما يقول الحلبية، إضافة لما فيهما من فيتامينات طبيعية.

رائحة رمضان في الأحياء تكتسب نكهتها الخاصة بين الصمت والحركة وروائح أنواع الطعام، ومنها المخصص لهذا الشهر الفضيل، مثل “المعروك” الذي يتفنن الخباز الحلبي في طهيه، فيضيف لمكوناته الشوكولا، التمر، جوز الهند، المربيات، الزبيب، القرفة، الفستق الحلبي المدلل، والقشطة، ليكون هذا القرص أو الكعكة وجبة غذائية طبيعية متكاملة، تراها جنباً إلى جنب مع حلوى “اللقم”، والتمر.

وتظل الحركة في مجالها النشط بين طبلة المسحّر ليلاً وهي تقرع الظلمة لتنتفض اللحظات، فتتهيأ العائلات لوجبة السحور لأن “في السحور بركة”، بينما مع وقت الإفطار، وقبل آذان المغرب، تمتلئ شوارع حلب بشخصياتها الجوالة الأخرى، وهي تقرع “طاساتها” النحاسية لتبيع العرقسوس والتمر هندي، وقد يصادفك في الشارع بائع ما، ويقدم لك المشروب مجاناً كرماً منه وخيراً وعطاء، وقد ترى إلى جانبه شاباً، أو صبية، تطلب منه أن يقدم للعابرين الشراب مجاناً لأنها دفعت له ثمن ما يحمله ليكون صدقة عن روح أحد الموتى الأقرباء والأباعد.

وتتضمن الطقوس الاجتماعية أن يتبادل الناس التهاني والتبريكات قبل أسبوع من الشهر الكريم: “رمضان مبارك والله الكريم”، كما يتبادل الجيران والعائلات التبريكات وهم يتقاسمون مآكلهم، ويتبادلون أطعمتهم، ليكونوا المرايا العاكسة لتماسك المجتمع ومحبته وعطائه الفطريّ.

ولا تستغرب أن يكون على مائدة إفطارك من أخوتنا الذين يحبون هذا الشهر أيضاً، ويبادلوننا مناسباتنا كما نبادلهم مناسباتهم، ومنهم من يحب تجربة الصوم ولو ليوم واحد، فترى أم جورج قد طبخت اليوم، وقرعت جرس بابك، وأتت قبل الإفطار لتشاركك الوجبة والطقس.

في ليالي رمضان، تلمع أشعة القمر أكثر لتصطدم بأشعة الفانوس الذي يحمله بعض المسحرين، فيبدو صوت القرع أجمل، ليحضر المسحر، بعدما تنتهي ليالي الشهر، معايداً أهالي حارته بعيد الفطر السعيد، فيقدمون له ما يستطيعون من الهدايا المادية والنقدية وأطعمة العيد.

 

ما أجمل تلك الأيام

عن هذه الشخصيات وجماليات حضورها، تساءلنا، فأجابنا الشاعر أحمد العبسي: من ذكرياتنا الجميلة، كنا ننتظر المسحراتي حتى يمر تحت بيتنا، وهو ينشد أجمل المقطوعات الفلكلورية، ومنها: “قوموا على سحوركم أجى رمضان يزوركم”، وتابع: أما بائع السوس والتمر هندي فكنا نتسوق منه بعد العصر، وكان يعزف أجمل السيمفونيات وهو يحمل على ظهره برميلاً له أكثر من صنبور، ومزنر بكؤوس، ونشتري ونحن حاملين آنياتنا. في زمننا، لم يكن هناك أكياس نايلون كما في وقتنا الحاضر.. ما أجمل تلك الأيام ببساطتها وعفويتها وحب الناس لبعضهم البعض.

 

رموز شعبية

الكاتبة يمان ياسرجي أكدت على استمرارية حضور المسحر: “رغم العصر التكنولوجي، ورغم ظاهرة السهر، ما زال يصيح ويدندن، ونحب هذه الظاهرة لأنها رمز شعبي وأيقونة رمضانية جميلة”، كما لفتت إلى حضور بائعي العرقسوس والتمر هندي بأسلوب معاصر، كونهم يتكاثرون في زوايا كل شارع وحارة وزقاق، ويضعون براميل الشراب، ليشكّلوا مع الناس العابرة طقساً رمضانياً محبباً، لاسيما في آخر ساعة تسبق الإفطار، لتبدو حلب بجوها الحميم الجميل مشهداً متفرداً بطقسه الاجتماعي، وأكدت: “حالياً، وبسبب كورونا، لا يمكننا تناول هذه المشروبات خارج البيت إلاّ إذا كان بائعوها ثقة”.