ثقافة

أحلام مؤجلة

جُمان بركات

خفت كثيراً بعد أن أبعدته ظروف الحرب عنا أن يكون قد تغير، وفقد حسه الفكاهي وأسلوبه الجميل في رسم البسمة على وجوه المحيطين به، جاء إلى أمه بعد غياب سنة ونصف لم يستطع خلالها رؤيتها إلا في المنام، أو عبر سماع صوتها العذب عبر هاتفه المحمول، فقد قذفته خدمته العسكرية إلى دير الزور، ومنذ لحظة نزوله من الحافلة التي أقلته مع رفاقه العساكر من المطار إلى دمشق، بدأ بفرك عينيه وكأنه لا يصدق ما يراه. شعر أنه يملك الدنيا، كان ينظر إلى السماء بطريقة مختلفة، وكأنه يراها لأول مرة، بدت كأنها مختلفة عن سماء دير الزور التي تشهد ذروة الحرب على الإرهاب، هناك.. حتى الوجوه اختلفت، فالملابس هناك بلون واحد لون الدم والدخان، وعندما سألناه عن الأوضاع هناك أكد لنا أنها “سماء مختلفة”، وعند سؤاله عن حاله -رغم أن حاله كحال الكثيرين من الشباب الذين طالت لظى الحرب أحلامهم التي باتت بمجملها مؤجلة إلى أجل غير مسمى- يرد علينا “الحمد الله إننا بخير”، ونسعى جاهدين للقضاء على الإرهاب واستعادة الوطن لنعود ونعيش بسلام وأمان وإيماننا بالله قوي جداً. في الحقيقة، قصصهم ومغامراتهم التي لا تنتهي تنسي الشخص نفسه، هذا الإيمان والاندفاع لحب الوطن والتنازل عن أي شيء يخص الحياة اليومية، لأي شاب يطمح في بناء مستقبل زاهر مقابل استعادة الوطن لأمنه لا بد أن تكون نتيجته الانتصار فظروف الحرب وقسوتها علمتهم أن يكونوا ويبقون أبطالها الحقيقيون والشهود عليها.
في قصة أخرى، سألته: هل أنت متزوج قال لها لا يا آنستي، إنما خاطب، فارتسمت علامات الدهشة على وجهها، والمفاجأة كانت أكبر عندما تابع قائلاً: لكن الخاتم أصبح واسعاً على أصابع يدي، بعد أن فقدت الكثير من الوزن، ولم يعد “يتهدى بإيدي اليمين” لذلك نقلته إلى اليسار، وأنا ممن يستعملون اليد اليسرى. ومن المعروف أن خاتم الزواج هو رمز الارتباط والحب الأبدي الذي يُفترض أن لا ينتهي إلا بالموت، لكن في ظل هذه الظروف أصبح له معاني أخرى، وتابع الشاب لقد تأجل العرس قليلاً لأن الوطن ينادينا، والزواج ينتظر، وهذا الخاتم الذي ترينه في إصبعي يعني لي الكثير لأنني عندما أشعر باليأس -بسبب قسوة الظروف- يكفي أن انظر إليه، وألمسه، لأتذكر الحبيبة التي تنتظرني، فهو يعطيني قوة غريبة، وكأن حبيبتي تقول لي: “استمر لأن الوطن بحاجتك، وأنا أريد حياة آمنة وكريمة معك ومع أبنائي”، فأستمر.
أما صورة الزوجة والأطفال المحفورة في القلوب والأذهان، والمحفوظة في الجيوب تكاد لا تفارق هؤلاء الأبطال أبداً، يتأملونها كل يوم، ويقول أحد الأبطال “إنها تمدني بالقوة وتشعرني أن للحياة معنى”.
في الواقع، هناك الكثير من النماذج لا تتسع الصفحات لذكرها، أثبتت أنها مثال يُحتذى في البطولة، وبالفعل من يرى قصصهم، ويستمع إلى أحاديثهم يدرك أن من يمتلك هذه المعنويات وقوة الإرادة المصحوبة بهذا الكم الهائل من حس المسؤولية وحب الوطن لا يمكن أن تهزمه أعتى الحروب. هم رجال في جيش تحدى العالم بقوته وإيمانه وفدائه، للمضي نحو طريق النصر الذي ترسمه جباه سمراء كل يوم تحت شمس لاهبة، وبأرواح تعبق بالشموخ والعنفوان، وعيون يشع منها بريق الانتصار والتصميم على دحر الإرهاب، فهنيئاً لمن بخطواتهم يزهر الياسمين، وتبتسم الحياة، ويزهو الحب في أرض السلام، سلام لمن حملوا دماءهم على أكفهم ليحيا الوطن.