التجسس قرين السياسة والدبلوماسية
ريا خوري
لم تتوقف الولايات المتحدة يوماً عن التجسّس على حلفائها، من خلال أجهزة التنصت والمراقبة والمتابعة المتطوِّرة التي تملكها، منتهكةً أبسط القواعد الأخلاقية وحقوق الإنسان، لذا لم يكن غريباً أو مفاجئاً أن تتفجَّر فضيحة التنصت التي مارستها وتمارسها أمريكا على مسؤولين أوروبيين كبار منهم.
من المعروف أنه منذ القِدَم كان التجسّس قرين السياسة والدبلوماسية، واستخدمته العديد من الدول للحفاظ على مصالحها الحيوية ومساعدتها على رسم خطط وبرامج تعاملها مع الآخرين سواء أكانوا أصدقاء أم أعداء. لقد أكدت العديد من وسائل الإعلام الدانماركية والأوروبية أن الولايات المتحدة تجسّست على سياسيين أوروبيين بارزين، بينهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بين عامي 2012 و2014، بواسطة برنامج تعاون مع المخابرات المركزية الدانماركية.
تعتبر عملية “شامروك” التي أتاحت التجسس على اتصالات ما بين ستين إلى سبعين سفارة أجنبية في الولايات المتحدة غير قانونية وغير أخلاقية، فقد استمرت وكالات الاستخبارات في بريطانيا وأمريكا ومراكز الاتصال، ووكالة الأمن القومي في البلدين بالتجسّس في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية من خلال اتفاقات سرية وغير قانونية مع شركات الكابلات الأمريكية الكبرى في عملية تحمل اسم “شامروك”.
ثم تمّ الكشف عن تلك الانتهاكات التي قامت بها الاستخبارات الأمريكية في عام 1975، في عملية شامروك، وأدّى ذلك إلى صدور قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية لعام 1978، الذي يهدف إلى تقييد اعتراض اتصالات المواطنين والشخصيات البارزة الأمريكيين. في شهر شباط 2020 تورطت شركة (كريبتو) ومقرها سويسرا، بعملية تجسّس دولية عالية المستوى بقيادة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وجهاز المخابرات الألمانية “بي إن دي”. وكشف التقرير أن الحكومات في جميع أنحاء العالم كانت تثق بهذه الشركة للحفاظ على سرية اتصالاتها من الاختراق والتجسس.
كشف إدوارد سنودن وهو خبير في مجال المعلومات وموظف سابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية في عام 2013، عن وجود برنامج تجسس عالمي على الاتصالات الهاتفية والإنترنت الخاصة لشخصيات بارزة حول العالم، إضافة إلى تسريب معلومات حسَّاسة جداً عن أنشطة الاستخبارات الأمريكية، بما في ذلك التنصت على مكالمات زعماء ومسؤولين كبار في دول أجنبية.
الفضيحة كانت بالنسبة إلى الأوروبيين صادمة لأسباب عدة، منها أن المستهدفين هم من أقرب حلفاء الولايات المتحدة المخلصين، وأن العملية تمت بين أعوام 2012 و2014 في عهد إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما من الحزب الديمقراطي، والمؤلم أيضاً أنها جرت بتواطؤ من مملكة الدانمارك، وكل هذه الدول أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يفترض أنه مظلة أمنية وعسكرية قوية لكل الشركاء. الثابت أن هذه الفضيحة ليست كل الحقيقة، فقد اعتلى سدّة البيت الأبيض الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، ودخل في خلافات علنية مع الاتحاد الأوروبي وصلت إلى حروب اقتصادية وتجارية وتباينات كبيرة حول التعامل مع القضايا الدولية، ولا شكَّ أنَّ عمليات التجسس لم تغب عن تلك المعارك.
إنَّ ما يصل إلى وسائل الإعلام لا يضاهي ما يتمّ التعامل معه عبر القنوات الدبلوماسية والأطر الأمنية والاستخبارية والسياسية السرية، ولكن في الغالب يتمّ التعامل معه على أساس أنه من ضرورات المصالح الحيوية للدولة وإجراءات سرية لا ينبغي الكشف عنها أبداً . أما إذا تسرَّبت معلومات إلى الرأي العام، فذلك دليل على وجود أزمة حقيقية. صحيح أن العلاقة بين دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة توافقية وتحالفية على جملة من القيم والأهداف المرسومة سياسياً، ولكنها أيضاً علاقة تنافسية في مجال التجارة والاقتصاد والنفوذ والمصالح الحيوية التي تتطلب أمناً وإجراءات حماية شديدة الصرامة، وهذه تقتضي أساليب محدَّدة في التعامل، منها التجسس وتقصي الأسرار والمعلومات عن الجانب الآخر العدو والحليف على السواء.
في الفترة الأخيرة نشطت أساليب التجسس الخطيرة، بعدما اقتحمت الميدان قوى جديدة بوسائل متطورة ومبتكرة استخدمتها بمهارة عالية في الحروب الإلكترونية التي أصبحت أكبر تهديد للأمن السيبراني. وكثيراً ما يتمّ تناول هذه القضية بالحديث عن الصراع المحتدم بين الشرق والغرب، بين جمهورية الصين الشعبية وجمهورية روسيا الاتحادية، في مقابل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين، بل يمكن القول إن أجهزة الاستخبارات العالمية والتجسّس تعمل بأقصى طاقتها في هذه المرحلة بدليل هذا التوتر الدبلوماسي الكبير ومحاولة الإلماح لامتلاكها العلم السيبراني.