الانتخابات والمعنى الأصيل للثورة
د. عبد اللطيف عمران
مجّرد طرح مفهوم الثورة هو حافز إيجابي، فقد استقرّ في أذهان الناس في هذه المنطقة أن وصف عمل ما بالثوري هو مفتاح القبول والأريحية والأمل بالخلاص وبالنصر على الأعداء.
وهذا أمر طبيعي لأنّنا كمواطنين وشعب وأمة، -آباءً وأجداداً- نعتّز بما أنجزناه من ثورات قوّضت الاحتلالين العثماني، والأوربي الغربي للوطن العربي، ثم تابعت حركة التحرر الوطني والاستقلال العربية جهودها لبناء مجتمع عربي جديد تنتفي منه مظاهر التجزئة والتخلّف والرجعيّة والعصبيات ما قبل الوطنية، سواء أنجحت هذه الجهود أم تعثّرت، وذلك لاعتبارات وأسباب عديدة.
لكن المفاجأة، ولا شك كانت مفاجئة، هي أن الاستعمارَين العثماني والغربي (الأوروبي والأمريكي) عادا من جديد وبأسلوب أكثر خبثاً وخسّة لتقويض كل منجز إيجابي سبق، وبأساليب عديدة كان أخبثها العبث بمفهوم الثورة وتزييفه عن طريق تصنيع مفهوم منحرف زائف ألصَقا خلاله بالمرتزقة والعملاء والخونة، بالمتطرفين والتكفيريين والإرهابيين صفة (ثوّار)، مع العلم واليقين أن فعل الثورة والثوار بحاجة إلى توافر شروط عديدة أهمها: الوعي- العقلانية- الوطنية- الواقعية- عدم الاعتماد على الأجنبي المحتل والطامع… فأين أدوات ما سمي بـ (الربيع العربي) من توافر هذه الشروط؟!.
لذلك علينا أن نصوغ بأنفسنا سرديات الحرب على سورية، تلك الحرب التي أجّجها وأضرم لهيبها إعلام البترودولار ومرتزقته من مثقفي ومسيّسي التكنوقراط الذين لن يقدموا للأجيال أبداً السرديّة الحقيقية الصادقة بأبعادها الأخلاقية والوطنية.
ومع هذا فصوت الحق والحقيقة في العالم إذا انكسر فإنه لا يموت، ولا يندثر وستأتي أجيال فيها عزم ولديها أخلاق وقيم، ووثائق أيضاً تكتب السردية المنشودة فتصفع وجوه الكذَبة، وتكشف المستور والمأجور والخائن، وتقدّم للأجيال الواقع والوقائع بعيداً عن الارتهان والارتزاق.
وها نحن الذين ننشد الرواية الصادقة عمّا لحق بشعبنا ووطننا وأمتنا نظفر يوماً بعد يوم بكثيرين من أصحاب الضمير الحي والقلم الصادق والرأي الحر في أربع جهات الأرض يسردون أمام شعوب العالم بعضاً من الرواية الصادقة، والمؤلمة أيضاً، عمّا لحق بنا من استهداف مسبق وممنهج لا تسقط معه نظرية المؤامرة في السرديّة التاريخيّة
فمن لم يعد يعرف أن (ثوار الربيع) متطرفون تكفيريون، جوّالون عابرون للحدود، عملاء ظلاميون يأتمرون بأوامر المحتلَّين والمستعمرَين العثماني والغربي، وفي مُناخ المأجورية والارتزاق والبترودولار لحق بهم بعض من تكنوقراط الثقافة والسياسة الذين آثروا البقاء في الفنادق والمطارات يتلذّذون بعوائد دماء المغرّر بهم من سفلة الناس – أدنى انحطاطاً من الثيران -، يفاوضون ويتحدّثون ويكدّسون الأموال تحت وطأة جرائمهم وجرائم مشغليهم، دون أدنى معرفة بأن الفكر الثوري والعمل الثوري يحتاجان أول ما يحتاجان إليه هو القدرة على التأسيس لمتغيرات جديدة إيجابية في سبيل نقلة إلى الأعلى على مستويات فكريّة واجتماعيّة واقتصاديّة وطنيّة لمجابهة جرائم العثماني والغربي والصهيوني والتكفيري… إنها كذبة العصر وجريمته.
في هذا السياق كانت الانتخابات الرئاسية في الجمهورية العربية السورية أكبر من كونها استحقاقاً دستورياً ديمقراطياً وطنياً، ليس بنتيجتها فحسب، بل أيضاً كسيرورة وإقبال ومنعكس إيجابي وطني تمثّل في عودة الوعي وأصالته وإدراك الشريحة الأوسع من جماهير شعبنا في الداخل والخارج، وحلفائنا وأصدقائنا، وأصحاب الصوت الحر في العالم أن الانتخابات كانت وستبقى صفعة في وجه أعداء سورية، وخصوم عروبتها وأصالتها ودورها التاريخي البنّاء المستدام.
نعم لم يستطع هؤلاء تصديق واقعية العمليّة الانتخابيّة وسيرورتها ونتائجها بعد سقوط أدواتهم وعملائهم، وكيف لهم ألّا يضربوا كفاً بكف وقد جابههم الخزي والذل وفشل الرهان.. (إن المهمة الوطنية أنُجزت)، ما يؤسّس إلى الانطلاق مباشرة وبنجاح لتحقيق شعار (الأمل بالعمل)… ثم أتت كلمة الرئيس الأسد بُعيد إعلان نتيجة الانتخاب صفعة قاسية على وجوههم، تلك الكلمة المؤسَّسة على الحقيقة والواقع قبل النتيجة، موضّحة زيف رهانهم على (ثوّارهم) الأذلاء و(ثورتهم) الخائرة فأصابت الكلمة والنتيجة والاستحقاق منهم مقتلاً، وكان طبيعياً ردة فعلهم الصارخة بالتشكيك والاتهام و… وبالمحصلة بالأسى والخذلان.
كان ضرورياً وواجباً – والحال هذه – أن يبيّن الرئيس الأسد الفرق بين شرف الثورة والثوّار، وبين من يستجدي لفظة الثورة والثائر ويحرّفها حين يخرّ ساجداً أمام الدولار وقد هوى في الذلّ والعار، وأن يخاطب الشعب: (لقد أعدتم تعريف الوطنيّة… وعرّفتم الثورة وأعدتم إليها ألقها بعد أن لوّث اسمها جزء من المرتزقة وفاقدي الشرف… وما حصل ثورة بكل ما تعنيه الكلمة ضد الإرهاب والخيانة والانحطاط الأخلاقي).
ولهذا علينا كأحزاب وطنيّة ومنظمات شعبيّة ونقابات مهنيّة، ليس في سورية فحسب، بل في جميع الأقطار العربيّة أن نصقل بالنظرية والممارسة المعنى الأصيل للثورة، وأن نمنع أعداءنا من أن يفكّروا ثانية في إمكانية تحويل المتطرّف والمأجور والتكفيري والخائن إلى ثائر، فنحصّن الأجيال الطالعة بالثقافة الوطنيّة العروبيّة وبالوعي المطابق لها.
ولا ضيرَ في أن ندرك أن هذه مهمة شاقة أمام الأحزاب الوطنيّة والمنظمات والنقابات العربية بعد أن أصابها ما أصابها، مستفيدين قليلاً من طرح لينين المهم والمفيد حول الحزب والثورة في كتابه: خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء.