بوشكين الخالد..!
حسن حميد
دائماً، وكلما عدت إلى قراءة مدونة الكسندر بوشكين (1799-1837) أشعر بمتعة جديدة لأنني أكتشف أشياء جديدة في هذه الكتابة الإبداعية التي تمر بها الأيام فتزيدها جمالاً ومنزلة، ولهذا حقّ لأهل الأدب في روسيا أن يطلقوا عليه لقب: أبو الأدب الروسي، وهو جدير بحمل هذه الصفة لأنه لم يتجاوز مجايليه والذين سبقوه في الكتابة الإبداعية في روسيا وحدها، وإنما تجاوز ممن هم خارج روسيا، انتشرت شهرتها في البلاد الأوروبية التي عادة ما ينظر أدباؤها ونقادها إلى الآداب الآتية من وراء الحدود نظرة الاستخفاف واللامبالاة، لا بل عدّوه أديباً من أهل الرتب الإبداعية التي عرفها دانتي، وبوكاشيو، وبترارك، وشكسبير، وسرفاتس، وفلوبير، وبلاك.
والحق أن العين النقدية رائية، لا ريب، أن كلّ ما هو نايف وصعب وحذق وجميل يمشي بين السطور التي كتبها بوشكين في نثره وشعره معاً، ويكاد المرء يدهش من أن كل ما توصل إليه النقد الأدبي، على مدارسهم ومناهجه الكثيرة، من تنظيمات تروم جماليات النص الأدبي، مثلما تروم خلوده، لهي بادية المعالم والحضور في نصوص بوشكين، وكأن الرجل كتب هذه النصوص من أجل أن يتطاول النقد الأدبي ويمتد وتتعزز مكانته كعلم حديث.
في شعر بوشكين حضور عال للحذق الشعري على حساب كل شيء، فالشعر في نصوصه نسيج داخلي نوراني تكتبه يد علوية لا صنعة فيه ولا التواء، شعر أشبه بحقل عباد شمس خضيل، باذخ الألوان، موّاى بالحركة، كثير الزهو، عال وبهيج، ونثره عالم آخر من جمال آخر بعيد عن روح الشعر وطقوس السحرية، نثر كأنه رسائل تكتبها روح عاشقة الحكاية وما ترونه من أحوال، وهنا تكمن المفارقة والمقدرة الإبداعية لدى بوشكين، فهو في النثر بوشكين آخر مختلف تماماً عن بوشكين الشاعر، ذلك لأنه وعى مبكراً طبيعة الأجناس الأدبية وما تهفو إليه من علوات وأسرار، ومع هذا ينظر النقاد الذين يمجدون مفهوم (التراسل الفني بين أجناس الأدب) إلى أن نصوص بوشكين هي خير مثال لتطبيقات هذا المفهوم، فالروح الشعرية تسري داخل أنساق السرد مثل عروق الذهب في الصخور الصلدة، والسرد يرق ويشف ويعلو ليعانق أنساق الشعر، والحوارات تتصادى في تنوعها وتوثبها، من أجل حمولة مضافة على قيمة النص، واستزادة لثرائه.
بوشكين الذي لم يعش طويلاً، شأنه في ذلك شأن المبدعين الذين كان رحيلهم فاجعاً، ترك أدباً روسياً رائعاً بغناه وجماله وحضوره الأبدي المدهش، وكأنه أدب نقش على يد الزمن، هذا الأدب يدرّس في المدارس الروسية، من رياض الأطفال إلى الجامعات، فهو أدب يشبه في مكنوناته مكنونات الأرض، وهي مكنونات من الصعب، بل من المستحيل، أن تدرك أو تنفد لباباتها.
في هذه الآونة، ذكرى ولادة بوشكين، نرى البلاد الروسية العزيزة، من البيوت إلى المدارس، ومن المؤسسات إلى عوالم الفن والأدب، تدور وبمحبة غامرة حول ماتركه بوشكين من أدب وحوارات وأخبار وحكايات لأنه بات إرثاً روسياً عالمي الهوية والصبغة والقيمة يوحّد الشعب الروسي من جهة، ويوحّد الإبداع العالمي من جهة أخرى، ولهذا كان محقّاً أحد قادة روسيا الكبار، وحين تعرّست بلاده لدهمة خطر كبير، حين خاطب شعبه قائلاً، من خلال خطبته للجنود الروس، هبوا يا أبناء الشعب الروسي العظيم كي تدافعوا عن إرث الأجداد العظام: بوشكين، وغوغول، وتولستوي، ودوستويفسكي، وتورغنيف، كان محقّاً لأنه وعى مكانة بوشكين في نفوس أبناء الشعب الروسي، فهو جهة للافتخار والاعتزاز، وهو جهة نادرة اشتقتها الحياة الروسية، نادرة في زمنها، ونادرة في مؤاخاتها للأزمنة في جريانها وحضورها ومكانتها العالية.
وبعد، بل مازالت العلوة التي يتربع فوقها بوشكين هي العلوة التي يحلم الأدباء والمبدعون بالوصول إليها؟ أجل، ستبقى لأنها علوة نقشت خلودها بالتعب الجميل، والموهبة النادرة، والثقافة الضافية، والشوق إلى البكورية العفية.
Hasanhamid55@yahoo.com