أثــر رجعــي
د. نضـال الصــالح
الأصل في أيّ قانون تطبيقه على الوقائع التي تلي صدوره، وهذا الأصل هو ما تواضع عليه المشرّعون في مختلف العصور والدول، وبسببٍ منه ومحمولٍ عليه كان تعبير “عدم رجعيّة الأثر” الذي يُعدّ أحد أقدم المبادئ العامة في التشريع، وأحد أبرز محدّداته، والذي يعني عدم سريان أحكام القانون على الوقائع السابقة لبدء العمل به، والتي تنتمي إلى مجاله، وإبقاء أحكامها على ما كانت عليه قبل صدوره.
ما سبقَ محض معلومة شديدة الإيجاز، ومؤسسِة لتقليب القول في شأنٍ من أكثر العلامات الدالّة على عافية التعليم العالي أو علله في هذه الدولة أو تلك من دول العالم، هي الدراسات العليا، ولاسيما الأبحاث التي يتمّ بموجبها منح شهادات الماجستير والدكتوراه، والمقيّدة بمجموعة من الأحكام التي منها، بل في صدارتها، الأمانة العلمية في النقل والاقتباس والتوثيق. وما سبقَ بآن هو محض مدخل إلى القرار الذي صدر عن جامعة دمشق قبل أيام، والمتضمّن سحب شهادة دكتوراه ممنوحة قبل نحو ست سنوات لإحدى طالبات الدراسات العليا في كلية الزراعة، بسبب انتهاء اللجنة التي شكلتها الجامعة للتدقيق في صحة الشكوى التي كان صاحب البحث الذي استُلّ منه “بحث” الطالبة تقدّمَ بها، إلى أنّ ما تزيد نسبته على خمس وستين بالمئة منهوب من ذلك البحث.
ما مِن ريب في أنّ قرار الجامعة خطوة مهمّة، وتؤسّس لخطوات تالية تعيد الاعتبار إلى الدراسات العليا في الجامعات السورية عامة، لا الجامعة الأم وحدها، لكنّ السؤال الذي لا يجد المرء فكاكاً من أسره وهو ينتهي من قراءة الخبر / القرار، هو: ماذا لو مضت هذه الخطوة بتمامها وكمالها إلى الكليات الأخرى في الجامعة، وإلى مجمل جامعات القطر؟ ثم من سؤال آخر وثيق الصلة بما سبقه، هو: ماذا لو تمّ ذلك بأثر رجعيّ للرسائل والأطروحات التي تمّت مناقشتها، والتي انتهت إلى منح أصحابها، إذا كانوا أصحابها بحقّ، شهادات الماجستير أو الدكتوراه؟
لو حدث ذلك، فستجد الجامعات نفسها في مواجهة عشرات الرسائل والأطروحات المنهوبة من سابقات عليها أو من مؤلفات تنتمي إلى مجالها العلميّ، وفي هذه الحال، وبآن، ستجد نفسها مضطرة إلى الأخذ بالمبدأ المعمول به في التشريع الحقوقي، أي عدم رجعيّة الأثر، صوناً للمكانة العالية التي حازتها هذه الجامعات طوال تاريخها على غير مستوى، وليس في مجال الدراسات العليا وحدها، والتي مثّلتْ علامة فارقة في البحث العلميّ لعقود طويلة في تاريخ الجامعات العربية، وقدّمت أمثولات باهرة لأكاديميين جديرين بالشهادات التي بلغوها، وكانت لهم مكانتهم المميزة في نشأة الكثير من الجامعات العربية وتطورها، وشهدت لهم هذه الجامعات، كما شهد طلابهم لهم، بكفاءاتهم العلمية الرفيعة من جهة، وحصافتهم في عملية التعليم والتعلّم من جهة ثانية.
وبعدُ، وقبلُ.. فلجامعة دمشق التحية والتقدير والإكبار للقرار الذي لم تتردّد في الإقدام عليه، وهو قرار يستعيد الحقّ لصاحب البحث العلميّ الأصل، ويرغم كلّ مَن ستسوّل نفسه له نهب جهود الآخرين على العدّ إلى المليون قبل أن يفعل ذلك.