“علاقات مستقرّة وقابلة للتنبّؤ”!
طلال ياسر الزعبي
مرّت هذه العبارة كثيراً على ألسنة المسؤولين الغربيين في حديثهم عن العلاقات مع روسيا، دون أن يعير لها أحد أيّ اهتمام، رغم أنها تختصر بالفعل المشهد الحقيقي الذي يرسم طبيعة العلاقات الغربية الروسية في الآونة الأخيرة.
وحول هذه العبارة كتب الرئيس الأمريكي جو بايدن في مقال لصحيفة واشنطن بوست، أن الولايات المتحدة لا تنزع إلى الصراع مع روسيا، وإنما تريد “علاقات مستقرة ويمكن التنبؤ بها في تلك المناطق التي يمكن لبلدينا أن يتعاونا فيها”.
ولكن ما هي النقطة التي أصبحت فيها العلاقات مع موسكو غير قابلة للتنبّؤ حتى تسنى لبايدن إطلاق مثل هذا التصريح؟ وما الذي ينبغي أن تقوم به موسكو حتى تصبح تصرّفاتها قابلة للتنبّؤ؟
وبعد تصريح بايدن هذا توالت التصريحات الغربية التي تتناول هذه العبارة إلى أن أصبحت خطة عمل مشتركة للدول الغربية في تعاطيها مع روسيا، ولكن ماذا تعني هذه العبارة بالضبط؟ وهل الأمر بالفعل له علاقة بما يسمّى “روسوفوبيا” أم يتجاوزه إلى معنى أكبر له علاقة بحالة الرُّهاب التي تعيشها الدول الغربية من تعاظم قوة روسيا على الساحة الدولية؟.
في السابق كان الحديث في الغرب يدور حول محاصرة روسيا لمنعها من الخروج من حدودها، أو الوصول إلى أماكن أخرى للتأثير في العالم، أما الآن فيبدو أن هذا الترتيب تغيّر نهائياً، حيث بات واضحاً أن الأمر تجاوز هذا المفهوم إلى معنى آخر بعيد تماماً له علاقة ربما بخشية الغرب ممثلاً بحلف شمال الأطلسي “ناتو” من ردّ فعل روسي عنيف على تماديه في التدخل في الشأن الداخلي الروسي، وإمعانه في خرق التفاهمات مع روسيا حول عدم نشر قوات قتالية كبيرة على حدودها، فضلاً عن محاولة “ناتو” استفزاز روسيا على حدودها الغربية، وآخرها قيامه بإحداث انقلاب في أوكرانيا عبر ما سمّي “الثورة البرتقالية” ليصبح على تماسٍ مباشر مع موسكو، الأمر الذي فرض على روسيا دعم الكيانين المنفصلين الناشئين في إقليم دونباس ذي الأغلبية الروسية، فضلاً عن قيامها باستعادة السيطرة على جزيرة القرم، وهذا بالضبط ما دفع الغربيين بالفعل إلى التفكير مليّاً قبل محاولة استفزاز الروس في أيّ مكان من العالم.
وقد عبّرت مجموعة “السبع الكبار” في قمّتها التي انعقدت في مقاطعة كورنوال البريطانية مؤخراً عن هذا المعنى بالعبارة ذاتها: “علاقات مستقرة وقابلة للتنبؤ مع روسيا”، الأمر الذي استدعى تعليقاً من المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قالت في نهايته: “حيث إن قابليتنا للتنبؤ أثبتتها السنوات والأعمال، فإن الكرة في ملعب مجموعة السبع التي لها مشكلة في هذا المجال”.
وواضح من كل ذلك أن الأمر بالفعل لا يتعلّق بقدرة الغرب على فرض الحوار مع موسكو من موقع القوة، بل إن الأمر تجاوز هذا المعنى كثيراً إلى نحو يؤكّد أن الغرب ممثلاً بحلف شمال الأطلسي القوة الضاربة في العالم سابقاً، بات يستجدي الحوار مع روسيا ليتسنى له دراسة أيّ تصرّف يمكن أن يُقدم عليه قبل استفزاز روسيا به، حيث كانت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد استعادة شبه جزيرة القرم وظهور كيانين غير معترف بهما في دونباس يعتمدان على موسكو، حول “خلع الأسنان” واستعداد روسيا للردّ على أي استفزاز بشكل “غير متكافئ” نقطة تحوّل كبيرة في العلاقات بين روسيا والغرب، وقد عزّز هذه الفكرة تصريح المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف من أن “احتمال خلافاتنا وحتى بعض اللحظات المتضاربة في علاقاتنا الثنائية كبير إلى درجة يتعذر معها توقع أي تقدّم في التوصل إلى تفاهم”.
لذلك كله، تفسّر العبارة أعلاه قلقاً غربياً واضحاً من إمكانية أن تُقدم روسيا بالفعل على خطوات مماثلة في دول أخرى شرق أوروبا على خلفية قيام “ناتو” باستفزازها مرة أخرى على حدودها الغربية، الأمر الذي يفسّر رفض بعض الدول الأوروبية نشر منظومات صاروخية جديدة للحلف شرق أوروبا.