“الشرفة”.. إطلالة على واقع الأزمة
انشغلت معظم الروايات التي صدرت في السنوات العشر الاخيرة ضمن الساحة الأدبية السورية بقراءة حوادث الأزمة وانعكاساتها المختلفة من وجهات نظر متباينة تفرضها إيديولوجيات ورؤى متناقضة، بعضها اتسم بتطرف واضح في فرض التوجّه السياسي المباشر للكاتب، وبعضها الآخر قدّم حالة تسجيلية واقعية من منظور مكاني وفكري محددين، وتأتي رواية الكاتب سليم عبود الصادرة حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب بعنوان “الشرفة” ضمن هذا التصنيف. يمكن أن نستخلص من دلالات العنوان الحيّز من البيت الذي يطل سكانه من خلاله على الفضاء المحيط به ضمن مجال الرؤية، والكاتب لا يذهب أبعد من ذلك إلا في حالات محدّدة تفرضها حالة استدعاء الذاكرة.
تأخذنا الرواية من منزل علاء يونس غانم في حي المزة 86 أحد التجمعات السكانية العشوائية الكبيرة التي تحيط بالعاصمة دمشق وغالبية سكانه من الوافدين إلى العاصمة من المحافظات السورية الأخرى، إلى عوالم الناس الفقراء الذين أرخت تبعات الحرب بظلالها على نواحي حياتهم، وهنا نتوقف عند ميزة معرفة المكان بالنسبة للقارئ، فالرواية عندما تأخذنا إلى مكان خبرنا أزقته وشوارعه وساحاته جيداً وألفنا طبيعة سكانه يصبح للقراءة طعم آخر معايشة وتحليلاً للتفاصيل.
يبدأ سليم عبود باستهلال تعريفي وصفي يبيّن فيه رتابة الحياة وبساطتها ما قبل الأحداث التي اندلعت في أطراف دمشق قبل أن تبدأ قذائف المسلحين تنهمر على العاصمة ولاسيما حي الـ86، لتأخذ تلك الرتابة والانسيابية لصيرورة الحياة بالتبدل والتحول إلى إرباك وقلق يرخي بظلاله على نواحي العلاقات الاجتماعية والأسرية المتنوعة، رغم أن الرواية لا تتعدى كونها يوميات أسرة صغيرة يرى فيها الكاتب نموذجاً لأسر كثيرة تعرّضت لخلل بنيوي ذاته بفعل تأثيرات الأزمة، فهو لا يتشعب كثيراً خارج نطاق تلك اليوميات إلا ما ندر، حيث يرتكز السرد على صوت واحد يخاطبنا بضمير المتكلم هو علاء، ومن تبقى من شخصيات تدور في فلكه ويديرها كما يشاء دون أن يمنحها أي نوع من الاستقلالية، أو حرية التعبير عن ذاتها لدرجة الغوص في عوالمها الداخلية واستيضاح مايكتنفها من تغيرات.
شخصية علاء المحورية هي من تفتح نوافذ السرد على قضايا كثيرة بدأت معالمها تطفو على السطح خلال سنوات الأزمة، تغيّر أمزجة الناس، وحدّة انفعالاتهم، دور المثقف المنكفئ على ذاته، زيادة نسبة الفقر بشكل فجائعي مؤثر، الثراء الفاحش لتجار الأزمات ممن سماهم “دواعش الداخل”، الفساد، اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وغيرها من مظاهر بدأ الناس يتذمرون منها لتأثيرها المباشر على حياتهم بشكل بات مصيرياً أكثر مقارنة مع سنوات ما قبل الحرب رغم وجودها السابق.
يسير السرد في “الشرفة” وفق نسق متسلسل إلى حدّ ما، يتخلله بعض التشابك الذي تفرضه المرجعية الزمنية والمكانية للشخصيات في علاقتها وتقاطعها مع سيرة الشخصية المحورية، وقد يلجأ أحياناً الى استحضار شخصيات فجائية دون تمهيد تعريفي يجعل القارئ ينقطع عن سياق السرد للبحث عن مرجعية الشخصية وطبيعة علاقتها بالروي كشخصية حسام التي يتكرّر ذكرها في أكثر من موضع دون سابق معرفة “جاء هاتف حسام : هل أنت بخير..”، وسلمى أيضاً “يشبه وجهها إلى حدّ ما وجه سلمى” لينتظر القارئ صفحات عدة ليتعرف على دور شخصية سلمى في الحكاية.
بطل القصة علاء تخرّج في قسم الصحافة، وهناك تعرف على معظم حبيباته ومن بينهن زوجته شذا الجولانية القادمة من بلدة شمس، وكذلك شادن ذات الملامح البدوية، وريتا ابنة رجل الأعمال منذر الفخراني، يختار الكاتب فتيات من أطياف اجتماعية متنوعة لبطله “الدنجوان” الريفي القادم من جبال الساحل إلى العاصمة كخامة ليدرس الصحافة دون أن يعمل في مؤسساتها هو وزوجته شذا التي تعمل في مؤسسة الاتصالات دون أن يقدم لنا الكاتب تبريراً مقنعاً لهذا الاختيار الوظيفي ودوره الدرامي في خدمة القصة، فقد كان يستطيع الدخول من خلالهما إلى المؤسسات الإعلامية الأكثر غوصاً وتماساً مع مستجدات الحالة الاجتماعية والسياسية الطارئة ما بعد عام 2011، ومن خلال ذلك يمكنه تجنّب رتابة السرد التقريري الذي غاص فيه وأفقده ميزة الاستعراض اللغوي الأدبي، والاستطراد الوصفي والتشويق الايقاعي المتسارع، ولاسيما أنه لجأ من حيث الشكل إلى الكتلة السردية الواحدة غير المعنونة، فقرات قصيرة رابطة يكثر فيها من وصف الغيوم والطقس دون توظيف دلالي.
ركز الكاتب في الرواية على يوميات بطله العائلية وعلاقاته النسائية على حساب الغوص في الشأن العام والاستفاضة في تحليل ما آلت اليه أحوال الناس فترة الحرب، حتى أنه أهمل تتبع مصير أولاد علاء مجد ويوسف ومريم، ولاسيما مجد الذي تعرّض لعملية احتيال أوقعه فيها زوج ريتا زهير المكتبي، مع خاله، جعلت منه متسولاً في أحياء مصر.
شخصيات رواية “الشرفة” تنتمي الى تيار إيديولوجي متوافق نوعاً ما، نتج عنها أفعال مترابطة وظيفياً، تخلو من التجاذبات الفكرية والتحليلية، لذلك انحصرت طروحاتها بالعموميات دون أن تذهب بعيداً في تتبع تشابكات وإرهاصات الأزمة، وقد أثر ذلك على سوية السرد وحامله البنيوي والفكري دون أن ننكر على الكاتب ما طرحه من مواقف جريئة من خلال شخصية علاء “كم تخفي دمشق في جوفها من فقر”، “لقد ابتعدت الصحف عن هموم الناس زمن الحرب”، والتوظيف السردي لوقائع حقيقية شهدتها البلاد كاستشهاد رجل الدين محمد رمضان البوطي بتفجير انتحاري، وهروب عدد من رجال الأعمال والتجار يحملون مبالغ مالية كبيرة سرقوها كقروض من البنوك الوطنية.
لاشك أن “الشرفة” واحدة من الروايات المهمّة التي توثق بواقعية تسجيلية للأحداث الأخيرة، استطاعت أن تشتغل على متناقضات الحالة السورية من جوانب متعددة، ولعلّ أبرز نماذجها كانت شخصية أم عساف جارة علاء التي غيّرت الأزمة كل ملامحها ونجحت في ركوب موجة مقتنصي الفرص ممن تخلوا عن قيمهم ومبادئهم ولحقوا ركب الفاسدين، حيث لم يعد من منطقة وسطى في هذا الصراع الذي البقاء فيه للأقوى، وهذا ما أراد سليم عبود الوصول إليه في مقولة أم عساف الختامية “في رأيي بيع البيت وأنقذ يوسف…”.
آصف إبراهيم