الرضا بالوهم!
حسن حميد
قرأت الفلسفة، ورأيت فيها صور الحياة ومعانيها، وكانت في أغلب نصوصها ومدارسها ذات منطق محكم، وإن كانت لا ترضي قراءها، كدت أقول عشاقها، بسبب صعوبتها وغموضها وجهامة أسلوبها!.
في الفلسفة أمور عجيبة وغريبة تشبه الحياة أو ربما هي صورة عن الحياة، والناس، والمشارب، والأحلام. ومن غرائب الفلسفة وعجائبها، أنّ الكثير من الخلق يعيشون حياة اسمها (الرضا بالوهم) ويتمتّعون بها مع أنّهم يعرفون أنّ كل ما يقومون به له علاقة وطيدة بـ (الرضا بالوهم)، لأنّ ما يمتلكونه من قوى ومواهب لا يؤهلهم كي يصبحوا من أهل الإبداع الحقيقي، أو من أهل الجمال الحقيقي، أو من أهل الاشتقاق البكر.. وتقول هذه الفلسفة إنّ (الرضا بالوهم) صيغة عيش تشبه إلى حدّ بعيد ما نراه في البراري من نباتات وأشجار، بعضها ساحر في خضرته وحضوره، وبعضها ضنين بالزهر والثمر والفيء أيضاً، وبعضها يظنّ أن الأشواك خلقت للزينة، وأنّ الطعوم المرة مذاقات لا تدانيها مذاقات!
قلتُ هذا السطر الطويل، وأنا أرى وسائل التواصل الاجتماعي التي وُجدت لسدّ الثغرات التي أبدتها الحياة الأسرية والمجتمعات في العالم، ولتقرّب الناس في أفكارهم ومشاعرهم وأمزجتهم نفاذاً من الحدود والأطر، وكأنها تكرز لفلسفة (الرضا بالوهم) وتدعو إليها، فمعظم ما نراه ونعيشه قراءةً وتصوراً في صفحات التواصل الاجتماعي، يدعو إلى هذه الفلسفة، فالرضا بكل مكتوب، أو منشور، أياً كانت درجة قبوله أو ندرة أهميته، هو شكل من أشكال الوهم، فالرضا عن الصورة المنشورة ومن الكتابة التي تسبقها أو تعقبها، يلاقي ترحيباً وتواصلاً له علاقة بالوهم المرضي، لأنها صورة لا تعني شيئاً لأي أحد، إنها مجرد صورة اختارها صاحبها لسبب يعنيه، ومع ذلك تنهمر أشكال الإعجاب بالصورة من القريب والبعيد معاً، ومع ذلك تبقى مسألة نشر صورة أو منظر قليل الخطر والتأثير، أمّا الخطورة المخيفة فهي بادية في المنشورات المرتجلة والطارئة التي لا قيمة لها، ومع ذلك فهي تلاقي ترحيباً ودعماً وثناءات بوصفها إبداعاً أو ربما أكثر، وهنا تكمن الخطورة، فيظن بعضهم أنّ هذه المنشورات هي الأنموذج الجميل الذي أفصحت عنه القرائح الكبيرة، أو قل المواهب النادرة، لكن الحقيقة الناصعة أن هذا، في كليته، ليس سوى (الرضا بالوهم)، وهو شكل من أشكال المشي الأعمى وراء ما لم يُدرك أو يُعرف، ومن عجب أنّ هذه الفلسفة ارتقت إلى أمكنة كانت لها مهابتها وعتباتها الرادعة فصارت متاحة لكل صاحب عمل خديج كي يصل إلى منابرها، مع أن ما بين يديه لا يؤهله لارتقاء المنبر وقول ما لديه لأنّ ما صاغه خديج وكفى، ومع ذلك نفذ، وينفذ الكثيرون إلى هذه الأمكنة، فاعتلوا منابرها قبل الأوان، اقتداءً بنظرائهم الذين يشبهونهم في كل شيء، فازداد الطين بلّة، والأغرب أنهم تقاسموا دوري الحضور في هذه الأمكنة، فهم، في مرة أولى، يقذفون الحاضرين، ومن فوق المنابر، بما لديهم من أعمال خديجة، وفي المرة الثانية يأخذون دور المتلقين، وبذلك يتلاقى قوسا الدائرة، في القوس الأولى هناك من يتكلّم، وفي القوس الثانية هناك من يتلقّى الكلام، أما الرسالة فهي حشو عتمة القوسين.
أقول هذا لأنّ ما يحدث في الجانب الثقافي، وليس في الجانبين الأدبي والفني وحدهما، يكاد لا يصدّق، فالنقل من منشورات التواصل الاجتماعي جعلت أصحاب (الرضا بالوهم) كتّاباً ومفكّرين يتحدّثون في موضوعات لم يعرفوها سابقاً ولا في أحلامهم، وجعلت من لم يقرأ قبلاً قصيدة واحدة كاملة شاعراً، ومن لم يقرأ رواية طوال حياته روائياً؛ وهنا أسأل ترى ما العمل؟! وكيف لنا جميعاً، ألا نشارك في الخديعة التي اسمها (الرضا بالوهم)؟.
Hasanhamid55@yahoo.com