دراساتصحيفة البعث

أمريكا وأوروبا.. العلاقة الفاشلة

عناية ناصر

 

لن تدوم العلاقة عبر الأطلسي ما لم تكن هناك ندية بين الشريكين، وباعتبار أن أوروبا تتجه لعدم الاعتماد على الولايات المتحدة، فإنها ستبتعد عن التحالف عبر الأطلسي، وغالباً ما يتم اختزال مستقبل القارة إلى واحد من سيناريوهين: الأول، استمرار التحالف عبر الأطلسي في الازدهار بزعم أنه قادر على درء التهديدات المزعومة من الصين وروسيا، والسيناريو الآخر، تلاشي الشراكة التي ستترك أوروبا أضعف، لكن هناك سيناريو ثالثاً أقل نقاشاً، وهو السيناريو الذي حذر منه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في مقال له تحت عنوان: “ماذا لو فقدت أوروبا استقلالها ليس عن موسكو أو بكين، ولكن عن واشنطن؟”، في هذا السيناريو يرى كيسنجر انهيار المجتمع عبر الأطلسي، لتظل الولايات المتحدة في أوروبا نوعاً من القوة الأجنبية، يعتقد البعض أن هذا ربما بدأ بالفعل بالظهور، فقد اختتم الفيلسوف السياسي والمؤرخ لوك فان ميدلار محاضرة أخيرة في باريس بعبارة: “في علاقاتنا مع أمريكا، قد ننتقل من مكانة الشركاء إلى مرتبة التابعين، لقد أعطانا ترامب فكرة مبكرة عن ذلك”، كما قال لي بيير فيمونت، الأمين العام الأول لخدمة العمل الخارجي الأوروبي، كان الأوروبيون قادرين على قول لا عند الضرورة، لكن الافتقار إلى الاستثمار الدفاعي وتقلّص النفوذ التكنولوجي والمالي يجعلهم مترددين أو غير قادرين على التأثير في الحسابات الأمريكية، ويخشى فيمونت “أن مفهوم أوروبا المتراجعة أصبح أكثر وأكثر في العلن”.

في الواقع، يبدو كما لو أن موقف الولايات المتحدة تجاه حلفائها قد أصبح نقيضاً تماماً لما كان عليه من قبل، تبادلت آسيا وأوروبا المواقع، فخلال الحرب الباردة، لم تكن واشنطن تخجل من ممارسة سلطتها بطريقة أكثر فجاجة عند التعامل مع اليابان أو أندونيسيا أو الفلبين، وكان من المفهوم استعراض بعض العضلات إذا كان ذلك سيمنع وقوع انقلاب شيوعي في جاكرتا أو مانيلا، اليوم ، تبدو أوروبا كملعب وليس كلاعب، وكما أوضح وزير الخارجية الأمريكي آنذاك مايك بومبيو في زيارته إلى باريس في تشرين الثاني الماضي، فإن كل ما تهتم به واشنطن هو منع النسخة المعاصرة للانقلاب الشيوعي، استيلاء صيني على شركات التكنولوجيا الأوروبية، وفي محادثة هاتفية حديثة، قال ريتشارد جرينيل، السفير الأمريكي السابق في برلين: “إن الولايات المتحدة معرّضة لخطر “السماح لأوروبا بالابتعاد عن التحالف الغربي”، ومن اللافت للنظر أن العديد من الأمريكيين ينظرون الآن إلى أوروبا باعتبارها ليست شريكاً بقدر ما هي لقمة سائغة، ولتفسير ذلك، هناك عدد من العوامل التي تفسر لماذا لم تعد واشنطن تشعر أنها بحاجة للاهتمام بالآراء أو الرغبات الأوروبية، وتؤكد جاستن فايس، مدير تخطيط السياسات بوزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية، بأن هذه العوامل كانت واضحة بالفعل في عام 2013 مع باراك أوباما:

أولاً، عندما حلّت الصين محل روسيا باعتبارها المنافس الرئيسي للولايات المتحدة، أصبحت أوروبا الآن بعيدة كل البعد عن مركز الاهتمام، وعلى النقيض من ذلك، اكتسبت اليابان والهند أهمية متزايدة.

ثانياً، كما يشير فيمونت، فقدت أوروبا كلاً من القدرات الاقتصادية والعسكرية، إذا كانت أوروبا معرّضة لخطر الاستيلاء عليها من قبل روسيا أو الصين، فمن يستطيع إيقاف ذلك؟ مؤكداً: “ليس الأوروبيين”.

ثالثاً، تشعر واشنطن اليوم بأنها أكثر عرضة للخطر عما كانت عليه خلال الحرب الباردة، فالاتحاد السوفييتي لم يتجاوز 40 في المئة من الناتج الاقتصادي الأمريكي، أما الصين فتبلغ بالفعل 70 في المئة، وقد تختفي الفجوة تماماً في أقل من عقدين، وقد يؤدي ذلك إلى ظهور منافس لأمريكا أقل تسامحاً وأكثر ميلاً إلى النزعة التجارية.

في الأشهر الأخيرة لها في المنصب، يبدو أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل انشغلت بمسألة الضعف الأوروبي هذا، ويبدو أنها ملتزمة بشكل متزايد بجعل ذلك تحذيراً وداعياً لقادة أوروبا، فعندما التقى الرئيس الأمريكي جو بايدن بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جنيف، سارعت ميركل إلى القول بأن أوروبا بحاجة إلى التحدث بصوتها بشأن المسائل التي يكون أمنها وازدهارها على المحك.

ووفقاً لأحد الحاضرين في قمة المجلس الأوروبي خلال مناقشة هذا الأمر، بدت ميركل عاطفية بشكل غير عادي بشأن هذه القضية، ومع ذلك، عندما انضمت إلى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في دعم قمة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، سرعان ما تعثر الاقتراح الفرنسي الألماني في بحر من الاتهامات المتبادلة بين القادة الأوروبيين الآخرين، وقال عدد من دبلوماسيي أوروبا الوسطى والشرقية: يمكن لبايدن مقابلة بوتين من موقع قوة، لكن الاتحاد الأوروبي سيكون في موقف ضعف، ومع هذا النوع من التراجع، هل على الاتحاد الأوروبي أن يستسلم لمصيره في أن يصبح تابعاً سياسياً واقتصادياً لامبراطورية أمريكية جديدة؟.

إن هذه النتيجة لن تعني إعادة تشكيل الغرب، بل ستعني موته، ومثل الكثيرين في باريس وبرلين، لا يمكن التخلص من الشعور بأن السيناريو الذي أشار إليه كيسنجر يلوح في الأفق على مبدأ الزواج، بحيث تبدأ المشاكل عندما يشرع الزوجان في مسار حياة مختلف، ويبدو أن الولايات المتحدة تتجه نحو حرب باردة جديدة ومثيرة، في وقت تتدهور فيه أوروبا نحو غروب شمسها الجيوسياسي.