الهروب الكبير.. وإنكاره
أحمد حسن
ربما، للمفارقة الدالّة، كان أكثر ما يجمع بين الذكرى العشرين لأحداث أيلول وبين ما يحدث الآن في المنطقة كلها من أفغانستان إلى فلسطين المحتلة هو مفردة الهرب، وإن باستخدامات ودلالات متباينة.
الهرب من “كابل” مثلاً كان ملاذ أميركا الأخير من حرب دامت لعشرين عاماً طويلة ومريرة ظاهرها القضاء على الإرهاب وباطنها تحقيق المشروع الامبراطوري الأمريكي، أو ما يدعى في الأدبيات السياسية “المشروع من أجل قرنٍ أميركي جديد”، اغتناماً للحظة دولية تميزت بسيطرة أمريكية أحادية –ووجود “إدارة” خلاصية تؤمن بنهاية التاريخ- مقابل ضمور جليّ في صفوف القوى المنافسة التقليدية.
التطورات “الدرعاوية”، بالحمولة الرمزية والجغرافية لدرعا، هي مثال أوضح على الهروب الأمريكي بالنسبة لمنطقتنا.
الهرب أيضاً، ولكن هذه المرة للأمام، عبر استنفار كل قوى العدو الصهيوني – وبينها الوشاة العرب كالعادة – لإعادة الأسرى المتحرّرين ذاتياً إلى السجون “الإسرائيلية”، كان ملاذ “تل أبيب” – وأتباعها العرب – الأخير من تآكل متنام، ودائم، في القوة، والهيبة، بعد حرب ممتدة منذ نحو ثلاثة وسبعين عاماً ظاهرها “الحق الإلهي للشعب المختار”، وباطنها إنشاء “مخافر” متقدمة في المنطقة، منها “دولة إسرائيل” ومنها “مشيخات بريطانيا”، لخدمة المشروع الامبراطوري الغربي، سواء كان بقيادة عاهل التاج البريطاني أو امبراطور “روما العصور الحديثة” لاحقاً.
الاعتراف بذلك، أي بالهروب، هو أمر صعب على الهاربين وعلى المتضررين من هروبهم أيضاً، لكن بعضهم يعترف. ترامب مثلاً لم يكن أولهم بل أجرأهم على الإعلان. مدير “الشاباك الإسرائيلي” السابق، يعقوف بيري، وسواه، أقرّ مؤخراً بأن الولايات المتحدة في طريقها “نحو تقليص مشاركتها في الشرق الأوسط”. بالمعنى الشعبي، لهذا الكلام “الاستراتيجي” الذي يصف حالة قوة عظمى، هذا هروب. بالنسبة للأتباع هذا مؤشر خطير، فسقوطهم يصبح تحصيل حاصل ما لم يلتحقوا – بعضهم ذيلياً – بقوى دولية أخرى، هنا مثلاً نفهم ذلك الرفض “الإسرائيلي” شبه العلني لأوامر واشنطن بالحد من التعاون مع الصين في مشاريع تمس مباشرة بالأمن القومي الأمريكي – التعاون في ميناء حيفا مثلاً – كما نفهم “طرق” بعض عواصم الخليج بوابة بكين أو موسكو مؤخراً.
المفارقة أن بعض العرب، وللحق أغلبية النظم الحاكمة، منزعجة جداً من هذا الهروب المزدوج، بل إنها منزعجة للغاية من مفردة الهروب ذاتها حتى لو كان مضمونها حرية أسرى فلسطينيون من سجون الاحتلال.
صحيفة ناطقة بلسان هؤلاء المنزعجين تعنون خبرها الرئيس بالقول: “إسرائيل تطارد آخر اثنين من أسرى الجلبوع”، في الإعلام وفنه هذا عنوان يكاد ينحاز علناً للجلاد، مضمون الخبر أكثر خطورة فهو يبدو كوصف، حيادي، لكن شبه بطولي، وأسطوري أيضاً، للقوات “الإسرائيلية” المشاركة في عملية المطاردة.
الجميع يريد الإسراع في ترميم صورة الهيبة الأمريكية و”الإسرائيلية” لأن زعزعتها يرتّب عليهم أحمالاً عدّة، أولها فضح كذبتهم التي طالت لأكثر من سبعين عاماً عن قدريّة اسرائيل وعن نهاية التاريخ مع أمريكا، وثانيها عن “العين التي لا تقاوم المخرز”.
لكن للتاريخ كلمته التي لن يمنع تحقّقها الإنكار المرضي لحقائق تتظهّر يومياً على الأرض.
الهروب يحدث يومياً لكن على “العين التي تقاوم المخرز” أن تعمل كي لا تخضع لـ”مخرز” آخر، وهو أمر دونه شروط صعبة لكنها ليست مستحيلة، وذلك هو التحدي الحقيقي القادم..والصعب أيضاً.