التمويل الأصغر رهين عقليات وإدارات تقليدية.. والسقوف لا تفي بالغرض
دمشق- فاتن شنان
يبدو أن الطريقة الحالية المتبعة في عملية التمويل الأصغر لن تثمر نتائج مرضية في مسار تنشيط واقع المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر على وجه التحديد التي استهدفتها الحكومة ببرامج وخطط اقتصادية، لاسيما استمرار المصارف المعنية باعتماد الفكر المصرفي التقليدي للمنح والتمويل، إذ ترجح فكرة كيفية جني الأرباح من التمويل على حساب تطوير القطاع وإنعاشه في عقلية الإدارة، بل وتم الاكتفاء بأداء الدور عبر عرض منتجاتهم الائتمانية، ومحاكاة احتياج القطاع عبر تنوع أسماء وأنواع القروض، والتي ستبقى حبراً على ورق “قروض اسمية” دون اقترانها بآليات استثنائية خاصة تتلاءم وطبيعة المهمة الموكلة إليهم، وكفيلة بوصولها إلى الفئات المستهدفة.
لا جدوى
لا شك أن التمويل الأصغر يتطلب آلية عمل وإدارة مغايرة للفكر المصرفي التقليدي كونه يستهدف الشرائح الأضعف مادياً، ومشاريع صغيرة غير متمكنة اقتصادياً وإنتاجياً، وتحتاج من الرعاية والاهتمام قدراً كبيراً، الأمر الذي استدعى إصدار قانون خاص لها “القانون رقم /8/ لعام 2021” الذي نص على “منح قروض تشغيلية لشريحة محدودي الدخل من أجل تأمين دخل إضافي لها، وخلق فرص عمل، وتحقيق التنمية المستدامة”، وجاء القانون لتحقيق النفاذ المالي لأكبر شريحة ممكنة من ذوي الدخل المنخفض، وذلك من خلال تقديم المنتجات والخدمات المالية المختلفة في مجالات الائتمان والادخار والتأمين، والخدمات غير المالية المرتبطة بها، من التدريب، وبناء القدرات، وتقديم المشورة للعملاء، وغيرها، بهدف تأمين دخل إضافي، وتوفير فرص العمل، وتحسين نوعية الحياة سعياً وتعزيزاً للبعد الاقتصادي والاجتماعي من أجل تحقيق التنمية المستدامة، ولكن باعتماد الآلية ذاتها المعتمدة في المصارف التقليدية في أركان التمويل الثلاثة “الفوائد والأقساط والمدد الزمنية”، يعني حصر التمويل بشرائح معينة فقط قادرة على تأمين متطلبات قروض المصارف التقليدية، ليصبح لا جدوى من إحداث مصارف تمويل أصغر، باعتبار أن الهدف هو استهداف ذوي الدخل المحدود الذين لا يتمكنون من الحصول عليها من القطاع المصرفي لمساعدتهم في إيجاد فرص عمل، والدخول بنشاطات إنتاجية، أو لتنمية مشاريعهم متناهية الصغر.
تكاليف مرتفعة
التمويل الأصغر موجّه لمشاريع متناهية في الصغر كمحال لبيع المواد الاستهلاكية على سبيل المثال، أو تمكين صاحب حرفة كالنجارة أو الحدادة أو الحلاقة، إلى ما هنالك من الحرف التي قد تشكّل دخلاً إضافياً للأسر بوجود من يتقنها، بهدف تعزيز قدرة الفرد الطامح لاستثمار حرفته بشكل يحقق له دخلاً شهرياً جيداً ليعينه على تحمّل الأعباء المعيشية، ولاحقاً تحويله لباكورة إنتاج تدعم الاقتصاد بما تصبو الحكومة منه، ولكن يبدو مع طرح المصارف المعنية منها الوطنية للتمويل الأصغر أو التسليف الشعبي لقرض إنتاجي بسقف 30 مليون ليرة، وبفائدة تتراوح بين 8 إلى 12% لمدة ثماني سنوات، سيكون القسط الشهري بالحد الأدنى للفائدة 8% يقارب 340 ألف ليرة، وبفائدة أعلى سيكون المبلغ أكبر، تضاف إليه تكاليف أولية كإيجار المحل يقارب 200 ألف بالحد الأدنى، بحسب مساحته وموقعه، إلى جانب فواتير الكهرباء والماء والاتصالات، ومصاريف الطاقة بانقطاعات الكهرباء الطويل، لتصل قيمة المستحقات المتوجبة على المقترض لنحو مليون ليرة سورية، دون احتساب تكاليف طارئة ستضاعف قيمة الفاتورة، وهذا المثال طرحه العديد من الطامحين لإنشاء مشاريعهم الصغيرة، كما يؤكدون على نقطة هامة تلقي الضوء على مقدار مبلغ القرض لتغطية كافة مستلزمات المشروع لجهة ثمن الآلات والمعدات التي تتعدى قيمتها الحالية بحسب التضخم أعلى مما هو معتمد لدى الجهات المعنية التي مازالت تتغافل عن نسب التضخم الحاصل في مختلف مفاصل العملية الإنتاجية ولوازمها، لتتطلب مشاريعهم تحقيق ربح مالي بنحو مليوني ليرة شهرياً على الأقل لتغطية التكاليف المالية للقرض والمشروع، إلى جانب تلبية الأعباء المعيشية، فهل يعتبر القرض مشجعاً لبداية مشروع متناهي الصغر؟!.
ويقول أحدهم: بالمختصر سيدفع المقترض لمشروع متناهي الصغر ما يقارب مليون ليرة شهرياً، بغض النظر عن الضريبة المتوجبة عليه كون عملية المنح تتطلب ترخيصاً، وتصريحاً مالياً، وغيرهما، أي يترتب عليه منذ الشهر الأول بعد المنح ما يفوق مليوني ليرة بالحد الأدنى ليكون قادراً على تغطية مصاريف عمله وأعباء أسرته، وليكون المشروع ذا جدوى لاستمراره، وهو ما لا يمكن تحقيقه.
فوائد غير مدروسة
في البداية استهجنا الأمر لجهة الفائدة المرتفعة، ولكن ضمن استطلاع خاص بـ “البعث” لاستبيان نسب الفوائد المعتمدة في المصارف المعنية، يبدو مصرف الوطنية الأقل فائدة رغم ارتفاع قيمتها، كون بنك الإبداع يموّل قروضه بنسبة 18%، ومصرف الأولى للتمويل تصل فوائدها لعتبة 24% مع سقوف أقل، وقد حاولنا التواصل مع إدارة مصرف الوطنية، إلا أننا لم نوفّق، لكنها نشرت أحدث تقاريرها على موقعها الالكتروني تؤكد به تقديم قروض لقاعدة من المستفيدين تزيد عن 40 ألف قرض من أصحاب المهن والمشاريع الصغيرة، مذيّلة تقريرها بمساهمتها منذ تأسيسها بدور محوري في عملية التطوير المستمر لقطاع التمويل الصغير، بما يساعد على جعل المشهد القانوني والإداري للقطاع أكثر تمكيناً، بينما برر المدير العام لمصرف الإبداع أديب شرف بدوره أن ارتفاع التكاليف التشغيلية والتمويلية تفرض آلية معينة لاحتساب الفوائد، لاسيما القروض الممنوحة فيها أقل من المصارف التقليدية، وبيّن شرف أن المخاطر والكلف التشغيلية وتكاليف التمويل مرتفعة في المصرف، لاسيما لجهة الزيارات الميدانية التي يقوم بها المصرف بهدف المتابعة والرقابة لإنشاء المشروع، وبغياب التمويل والدعم لا يستطيع المصرف تخفيض فوائده، مبيّناً أنه قدم طلبات أكثر من مرة للحصول على تمويل بفوائد أقل من الجهات المعنية والمصرف المركزي، ليتمكن من التمويل بفوائد منخفضة قد تصل لنسبة 50% عما هو معتمد حالياً، كما من شأنه مضاعفة عدد المستفيدين، إلا أن هذه الطلبات لم تحظ بإجابة، وحالياً يسعى المصرف لزيادة رأس المال، الأمر الذي سينعكس حكماً على دوره وسقوف قروضه الممنوحة.
خسارة مضاعفة
على الرغم مما تضمنه تبرير شرف، إلا أن آلية التمويل مازالت عقيمة على الرغم من تنوع محفظة القروض في كافة المصارف المعنية، وهي متشابهة جداً لجهة الضمانات المطلوبة والأوراق الثبوتية من رهن عقارات أو ذهب وغير ذلك، وسجلات تجارية أو صناعية، الأمر الذي لايزال يشكّل عقبة أمام كبار المقترضين من تجار وصناعيين، فكيف سيكون الحال أمام مشاريع منزلية متناهية في الصغر وهشة البدايات، وأفراد محدودي الدخل وبإمكانيات ضعيفة؟ ويبدو أن إدارة المصارف لم يرتق تفكيرها إلى الأبعاد الاستراتيجية المرجوة من دورها، فالوضع الاقتصادي الراهن يستلزم اجتراح آليات تتناسب مع ضعف الحالة المادية، وتدني القدرة الشرائية، والتضخم الحاصل، لتصل إلى ما تصبو إليه، وتدعم توجه الحكومة، كما يمكن أن تؤدي الآلية إلى ارتفاع نسب التعثر بها، ما يعني إغراقاً أكبر للمواطنين بهموم مالية وأعباء غير محتسبة، والنتيجة خسارة مضاعفة لفرص إنتاجية وأموال دخلت في مسار التعثر، وتراكم فوائد تعاقدية وتأخير، قد تستغرق المزيد من الوقت لتحصيلها، أو يصار إلى هدرها بقرارات أو مراسيم إعفاء لابد منها لاسترجاع رأس المال الممنوح.
إدارة استثنائية
يرى العديد من خبراء الاقتصاد أنه من الضروري التمويل بفوائد صفرية لتلك المشاريع، مع فترة سماح لمدة عام على سبيل المثال، ترافقه متابعة دقيقة لنشوء المشروع لضمان تسييل الأموال لغاياتها، وبذلك يكون المشروع قد أبصر النور وتجاوز فترة البداية الشاقة وتكاليفها المرهقة، ويستطيع الانتظام بالتسديد دون ضغوط، بل قد يشتد عوده ليكون باكورة مشروع أكبر بميزة الوقت المعطى له، والذي سيكسب أصحابه خبرة وقدرة على إدارة مشاريعهم، متسائلين: أليست الحكومة من تسعى لتوسيع وتنشيط بيئة المشاريع تلك؟.. كان الأولى تزويد القطاع بإدارة استثنائية قادرة على التعامل وفهم طبيعة تلك المشاريع ورعايتها لتحصد النتائج التي تصبو إليها، لاسيما أن دراسات عدة أكدت أن نسبة هذه المشاريع تفوق ٩٠% من مجمل اقتصاد الظل، ومن الضروري إيلاؤها مزيداً من الاهتمام والعمل بما يسهم في تمكينها بغية الاستفادة منها.
مقترحات لابد منها
هناك العديد من المقترحات لتفعيل دور مصارف التمويل الأصغر، كما يؤكدها مديرو المصارف، لابد أن تكون محط اهتمام الحكومة لتعزيز دور المصارف، أهمها ربط التمويل الأصغر مع حاضنات الأعمال لتقديم خدمات التمويل والتدريب والتأهيل، وتعزيز الشمول المالي، بالتوازي مع ضرورة إلزام المصارف التقليدية الخاصة بتخصيص نسبة من السيولة المتاحة لمصارف التمويل الأصغر، وذلك بنسب فائدة مخفضة، بالتوازي مع تشجيعها على الإيداع في مصارف التمويل الأصغر بنسب فوائد مخفضة أيضاً، كما يجب إنشاء دليل للحوكمة خاص بالتمويل الأصغر لضمان تطبيق الحوكمة الرشيدة، وفيما يخص التكاليف طالب مديرو المصارف بتخفيض التكاليف المرتبطة بالهيكلية المطلوبة، إضافة إلى مرونة وتبسيط الإجراءات وتخفيض التكاليف المرتبطة بافتتاح الفروع والمكاتب، والموافقة على الخدمات وتقديم الخدمات، وإنشاء خارطة طريق وطنية للنشاطات المطلوب دعمها استراتيجياً لدعم سلاسل القيمة المضافة، وتأمين بيانات المستفيدين، وبيانات النشاطات الاقتصادية، وتوزعها الجغرافي.
ومن الناحية التدريبية، لابد من إطلاق خطة تدريب وطنية شاملة لدعم وتدريب رواد الأعمال، وأصحاب المشاريع القائمة، وربط مخرجات التعليم بالتمويل الأصغر عن طريق برامج تدريبية، وإدخال المادة ضمن مناهج التعليم، كما لابد من تبسيط إجراءات ترخيص المشاريع المنزلية، وتفعيل دور مؤسسة ضمان مخاطر القروض لتلبية احتياجات التمويل الأصغر من دعم ضمان القروض، والحصول على تمويل وإنشاء وتأسيس اتحاد خاص بمصارف التمويل الأصغر.