ذكريات مصباح أثري
غالية خوجة
هل جربت العبور إلى دواخلك من خلال مصباح ما؟ لعلك تستغرب السؤال، متوقعاً أن يكون حديثنا عن الكهرباء التي اخترعها “أديسون” مثلاً، وعن انقطاعها، وحضورها، وغيابها، ولربما سألتني: لماذا لم يوجد حتى الآن أديسون آخر ليخترع لنا وسيلة إنارة مناسبة لعصرنا؟ وكيف لإنسان يصل إلى القمر والمريخ، ولا يصل إلى حلول بديلة لمصباح أديسون؟!
تضحك في سرّك، فأضحك معك، وأشير إلى مصباح تكسّر زجاجه ولم تنكسر إرادته في الصمود والثبات على أحد جدران حلب الأثرية القديمة، فيقف باعتزاز كما حجارة الجدار المصابة بجروح القذائف وشظايا الحقد والكراهية والظالمين، ويشير إلى أشعته التي كانت هنا قبل أعوام، ثم يضحك معنا لأننا انتصرنا.
أشعة المصباح القديمة ما زالت متشبثة بمصباحها وجدارها ومدينتها، ولا يراها الجميع، لأن المحظوظ وحده سيكتشفها كلما عبر من هنا، ولعلنا منهم، والمحظوظ سيصغي لصمتها وهو يتأملها، ليسمع الحكايا التي لم تحدث عبْر التاريخ إلاّ هنا.
هل تسمع كيف تحكي عن ذاك الجندي الذي مرّ مثل البرق مع رفاقه، فأصابه قنص إرهابي اصطاده رفاقة الشجعان، ثم حملوا جثة رفيقهم الجندي، وذهبوا بمهمة دفاعية أخرى؟
هل تسمع الأشعة تحكي عن امرأة عجوز لم تترك بيتها العتيق القريب من المصباح إلى أن ماتت بقذيقة؟
كأن المصباح يهتز مع النسمة العليلة التي ساهمت في علاج الفيلسوف اليوناني “أرسطو” ذات يوم زارها فيه للاستشفاء الروحي والجسدي والنفسي.
المصباح العتيق بأشعته العتيقة، يحدق إلى دواخلنا، ويخبرنا عن أطفال ركضوا بأقصى ما يملكون من قوة وشجاعة ليتجنبوا الموت القادم من حقدهم وتخريبهم وكراهيتهم، والأطفال ذاتهم، اليوم، يذهبون إلى المدارس، ويكملون تعليمهم، ليبنوا وطنهم، بينما الجندي الجريح، يذهب كل يوم على كرسيّه المتحرك، أو على عكازه الطبي، ليكمل واجبه مع دورة الحياة.
أشعة المصباح العتيقة تمسح دموعها ودموعنا، وتضحك وهي تشاهد العمال وهم في معركة البناء وإعادة الإعمار يبذلون عقولهم وعرقهم وأرواحهم وجهودهم في سبيل أن تسترجع الأمكنة روحها لتبلسم جروحها سواء بالترميم أو الصيانة أو البناء، بينما العمال لا يتململون من أداء واجباتهم، كما طلاب الجامعة، وسيدات البيوت، والموظفين والموظفات، والشباب والشابات.
المصباح وأشعته وهشيمه يتنفسون الصعداء مجدداً، وهم يستمعون لطرقات المطارق، وصعود ونزول الرافعة العالية وهي تكمل ترميم الجامع الكبير، ويصغون إلى صوت باب خان الوزير وهو يفتح مصراعيه ليستقبل الناس وذكرياتهم وأحلامهم، فتتحرك شجرة الكرمة المثمرة في باحته، وتستعيد ذكرياتها مع القوافل التاريخية القادمة من أصقاع الأرض لرؤية حلب، وبيع بضائعها، وشراء بضائع لا مثيل لها من حلب، ثم التنزه على ضفاف نهر قويق، والاستعداد للمغادرة، دون المغادرة من شوق العودة إلى خانات حلب والإقامة في غرفها الأثرية، تلك الغرف والقاعات التي كانت تتوافد على زيارتها قوافل سياحية معاصرة من كافة أصقاع الأرض لتكتشف هذه الكنوز الفريدة عبْر العصور.
المصباح، وكيفما اتجهت أشعته التي لن تنكسر، يتراءى عودة القوافل السياحية من القارات الخمس إلى هذا المكان التراثي العالمي، ثم يلتفت نحونا أنا الكاتبة، وأنتم القراء، ليختتم حكاياته قائلاً: أنتم محظوظون لأنكم انتبهتم لأشعتي التي لا ترونها بالعين المجردة، وأنا محظوظ أكثر منكم لأنني أراكم خلايا نحل تريد إعمار وطنها من جديد ليس كما كان، بل أجمل، كم أنا سعيد برؤيتي لشعب بكافة فئاته يشكّل جنوداً مجهولين يدافعون مع جيشهم العربي السوري عن وطنهم الحضاري.