“قسم”.. الفكرة تحيي وتميت وليس الشظيَّة
تتجاوز فكرة فيلم “قسم” الذي يُعرض جماهيرياً في عدد من المحافظات السورية، دلالة العنوان إلى مقولة أعمق وأعمّ، فهي تلجأ إلى فلسفة علاقة الإنسان بوطنه ومحيطه من خلال اشتغال كاتب النص على الميثولوجيا الجمعية التي تتوقف عند الحدّ الفاصل بين الحياة والموت من خلال حكاية المقدم عهد الذي يُصاب في إحدى المعارك ضد الإرهاب، وفي الفترة الزمنية التي يقضيها في حالة الغيبوبة، ينتقل في عقله الباطن إلى جلسة محاكمة وسجال مع شخصيات سورية راحلة تركت بصمة في مسيرة وطن وضحت بحياتها في سبيل تطوره ورفعته، منهم مهندس الصواريخ السورية نبيل زغيب الذي قتله الإرهاب لأنه كان يعمل على مشروع التوازن الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي، هذا المشروع الذي طرحه القائد المؤسّس حافظ الأسد وتابع فيه الرئيس بشار الأسد، والمناضلة السورية عادلة بيهم الجزائري التي وضعت اللبنة الأولى لتأسيس الاتحاد النسائي، وشاركت في النضال ضد المحتل الفرنسي، وكذلك جراح العصبية الذي سعى بعلمه وإنسانيته لاستئصال الشر من أدمغة بعض البشر، كما يرمز الفيلم، وهو الدكتور محمود خليل شحادة الذي قتله الإرهاب أمام عيادته في حي البحصة الدمشقي، وأيضاً المخترع عيسى عبود الذي قتله الإرهابيون في حمص بعد إنجازات كبيرة حقّقها على صعيد الذاكرة والمعلوماتية، والعقيد خضر الذي ضحّى بحياته لينقذ أناساً أبرياء اتخذهم الإرهابيون دروعاً بشرية.
الوطن في الفيلم هو إيمان بالحضارة والتاريخ والحاضر والمستقبل، وهذا هو المطلوب من الجميع إعادة ترتيبه وربطه بعضه ببعض لفهم القيمة المادية والمعنوية للوطن، والشخصيات الخمس هي التي تعيد ترتيب الرقم الحجري المنقوش عليه لغة السوريين الأوائل المسمارية، وإعادة ترميم الرقم يعود برمزيته إلى المجتمع السوري الذي سعى الإرهابيون وداعميهم إلى تفتيته، وتشويه معالمه، وإحداث شرخ عميق بين كل سوري ومجتمعه وتاريخه العريق.
الفكرة كما يقول الفيلم هي التي تحيي وتميت وليست المادة، ولذلك عملوا على قتل الفكرة وتدمير العقل ليموت الوطن بكل مكوّناته ومقومات تطوره واستمراره.
فكرة الفيلم عميقة وذات مغزى ودلالة واسعة قدمها المخرج بأسلوب مسرحي بسماته الحوارية والمشهدية أكثر من السينمائي، فالفيلم برمزيته ومحاكاته الواقعية، يمكن رؤيته من جانبين، جانب مسرحي يتجسّد في جلسات الحوار والتلقين للعقل الباطن للمقدم عهد، والجانب السينمائي والتشويقي لمشاهد المعارك التي تصور بكاميرات محمولة جواً عبر لقطات استعراضية عالية وبانورامية لتضاريس البلدات والطبيعة الجبلية التي تدور فيها المعارك.
فيلم مشغول بعناية كبيرة تُحسب للمخرج كتجربة إخراجية هي الأولى للشاب باسل نوفل، لا تشوش جوهرها بعض الثغرات الإخراجية التي يمكن الدخول من خلالها إلى تقييم فني يطول الحديث فيه، ولاسيما المقاربات الشكلية لضباط الجيش الذين خاضوا معارك دون أن يعيروا تسريحة الشعر وصبغته أي اهتمام أو حلاقة الذقن وتصفيفها بعناية كما بدا عليه المقدم عهد في المشاهد الأولى وهو جريح ملقى في صندوق شاحنة نقل صغيرة يفترض أنه قادم من أرض معركة حامية الوطيس.
حضر الفيلم في عرضه الجماهيري الأول على مسرح قصر الثقافة بحمص جمهور شعبي ورسمي كبير، اضطر البعض منه لمشاهدة الفيلم جلوساً في الممرات، رغم طلب إحدى موظفات مديرية الثقافة منهم بالمغادرة بأسلوب غير لائق، لكنهم أصرّوا على مواصلة مشاهدة العرض حتى النهاية.
آصف إبراهيم