في ذكرى حرب تشرين التحريرية.. أقلام الأدباء حاضرة حتى اليوم
لطالما كانت الحروب الكبرى ملهمة لأعمال أدبية خالدة أثرت في الأدب العالمي كله، وذلك لأن الأدب يجد في تجربة الحروب وما تفرزه من مسارات جديدة في التجربة الإنسانية ما يثري ويعمّق آفاقها، وفي الذكرى الثامنة والأربعين لحرب تشرين التحريرية نقف عند قراءة بعض الأدباء لهذه الحرب، كيف كتبت أقلامهم أحداثها وتفاصيلها.
لربما أمضى حنا مينة وقتاً طويلاً يبحث ويقرأ ويقابل شهود عيان قاتلوا في تلك الحرب حتى يكتب رواية ذات تصوير شاهق دقيق ومفصل لحرب لم يحارب فيها الرجل بنفسه، ولكنه وفّق في نقل تفاصيل كثيرة للحرب، تحدث عن مشاعر مقاتليها وتوقهم للتحرر من الهزيمة وروحهم المعنوية العالية، وتحدث عن لحظات خوفهم ولحظات إقدامهم، لحظات صحوتهم ولحظات أحلامهم الغارقة في تفاصيل حياتهم الإنسانية، وصف معارك البحر والجو ومعارك الدبابات والمشاة، استطاع أسر القارئ ليظلّ شغوفاً أبداً للمقطع القادم مهما شعر بتباطؤ في بعض الأحداث.
في روايته “المرصد” الموقع الذي بنته إسرائيل على قمة جبل الشيخ، استطاع الكاتب أن ينقل مشاعر جيش وبلد بأسلوب مشوّق وجميل جداً، فجاءت محكمة بنسيجها الفني والإنساني والوطني والقومي العربي والتكتيك العسكري كخطة محكمة، اغتنت الرواية بمشاهد إنسانية بالغة التأثير متميزة وصفاً وعمقاً، حيث يودع المحارب الحيّ زميل السلاح الذي يُقتل، ومشاهد أخرى للالتحام بين المدافعين القلائل والمهاجمين الكثر، ويختتم مينا روايته على لسان أحد أبطالها: “اليوم تبدلت الرؤى.. وأشرقت الوجوه.. تشرين يا تشرين… كيف لو اكتملت فيك الأشياء؟.. وما زلنا نردّد إلى اليوم.. كيف لو اكتملت فيك الأشياء”.
ولأن الشعر نبض الحياة ولون الناس، فقد استطاع الشعراء التقاط اللحظة الفارقة بعد انتصارات حرب تشرين التحريرية وحوّلوا هذا الانتصار إلى شعر يعبّر عن فرحة النصر والحماسة، فكتب نزار قباني نثراً أقرب ما يكون إلى الشعر والصورة الشعرية: “قبل السادس من تشرين 1973 كانت صورتي مشوشة وغائمة وقبيحة، كانت عيناي مغارتين تعشش فيهما الوطاويط والعناكب، وكان فمي خليجاً مليئاً بحطام المراكب الغارقة، وكانت علامتي الغارقة المسجلة في جواز سفري هي أنني أحمل على جبيني ندبة عميقة اسمها حزيران، أما عمري في جواز سفري القديم.. فقد كان مشطوباً لأن العالم كان يعتبرني بلا عمر.. واليوم (6 تشرين 1973)، يبدأ عمري.. واليوم فقط ذهبت إلى مديرية الأحوال المدنية، وأريتهم صك ولادتي التي حدثت في مستشفى عسكري نقال.. يتحرك مع المقاتلين في سيناء والجولان، فاعتبروني طفلاً شرعياً، وسجلوني في دفتر مواليد الوطن، لا تستغربوا كلامي، فأنا ولدت تحت الطوفان، والجسور العائمة التي علقها مهندسو الجيش المصري على كتف الضفة الشرقية وخرجت من أسنان المجنزرات السورية التي كانت تفترش الصخور في مرتفعات الجولان، اعترف لكم بأن ولادتي كانت صعبة”.
ومن القصائد التي تغنّت بأمجاد هذه الحرب قصيدة للشاعر الكبير نزار قباني “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي” جاء فيها:
جاء تشرين يا حبيبة عمري ****** أحسن الوقت للهوى تشرينُ
ولنا موعدٌ على (جبل الشيخ) ****** كم الثلج دافئٌ.. وحنونُ
سنواتٌ سبعٌ من الحزن مرت ****** ماتَ فيها الصفصافُ والزيتونُ
سنواتٌ فيها استقلتُ من الحب ****** وجفت على شفاهي اللحونُ
سنواتٌ سبعُ بها اغتالَنا اليأسُ ****** وعلْمُ الكلام.. واليانسونُ
شام.. يا شام.. يا أميرة حبي ****** كيف ينسى غرامـه المجنون؟
أوقدي النارَ فالحديث طويلُ ****** وطويلُ لمن نحب الحنينُ
شمس غرناطةَ أطلت علينا ****** بعد يأس وزغردت ميسلون
جاء تشرين.. إن وجهك أحلى ****** بكثير… ما سـره تشـرينُ؟
إركبي الشمس يا دمشق حصاناً ****** ولك الله… حـافظ وأميـنُ
لن نضيف المزيد في هذه الذكرى، لكن من الواجب دوماً أن نعيد قراءة أحداثها وأن نعطيها حقها، حرب تشرين التحريرية أو حرب الغفران كما يسميها الإسرائيليون التي تعيد هذه الواقعة ألمهم وحزنهم الشديد والمتمثل خصوصاً بكلمة غولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية في تعليقها على الحرب التي وصفتها قائلةً: “لا شيء أقسى على نفسي من كتابة ما حدث، فلم يكن ذلك حدثاً رهيباً فقط وإنما كانت مأساة عاشت وسوف تعيش معي حتى الموت”.
عُلا أحمد