رشاوى وفساد مستتر في دوامة المعاملات الرسمية.. والمواطن “الحلقة الأضعف” دائماً!
دمشق- فاتن شنان
يعلو الضجر والتأفف ملامح معظم مراجعي الدوائر الرسمية، لاسيما المالية منها، رغم تسلّحهم مسبقاً بالصبر، و”طولة البال” كونها باتت من الضروريات لإنجاز أية معاملة، والأهم مبلغ مالي ينقذهم من دوامة التأجيل أو العرقلة، يسبقها تحضير نفسي وإجازة من العمل لأي إجراء مهما صغر حجمه، فتوثيق عقد إيجار على سبيل المثال- كون الأمثلة الأخرى لتوثيق ملكية أو معاملات مالية أكثر تعقيداً- يلزمه يوم كامل، وملف ضخم من التواقيع والأوراق الثبوتية وفواتير مياه وكهرباء مطلوبة بجانب موافقات رسمية قد تتناثر جهاتها المختصة على مسافات شاسعة، وتبقى للازدحام والدور، وما يطاله من تعديات لأصحاب النفوذ والمعارف، شجون أخرى.
“موعندي“
مشاهدات عدة خلال جولة على مديريات المالية كشفت جوانب خفية من سير القوانين وتطبيقها، ولكل حالة خصوصيتها، كإمكانية تجاوز بعضها، أو استغلال ثغرة هنا أو هناك لتسيير معاملة لا يمكنها السير إلا بموجبها، يقابله ضعف ثقافة ومعرفة لدى المواطنين بحيثيات القوانين من ضرائب ورسوم وتكاليف، وباختصاص كل دائرة يستغلها بعض موظفي الدائرة ومعقبي المعاملات لاقتناص الفرصة بمبلغ ليس قليلاً لقاء إنجاز معاملة قد تنجز دون مقابل.
بعض المواطنين همسوا لبعضهم بضرورة دفع مبلغ مالي لتسريع وتيرة عمل الموظف وزيادة حماسته لإنجاز عمله، بالمقابل بعض الموظفين تقاذفوا المراجعين فيما بينهم محمّلين بعبارة “موعندي”، وخلال مجيئهم وذهابهم وسؤالهم المتكرر “عندك هالملف”، يظهر شخص لديه خبرة بمكامن الفساد ويومئ للمراجع بحركة شائعة تعني “مصاري” ليصبح الملف فجأة من اختصاص أحدهم، وينقذ من فضّلوا “دفع الرشوى” من استمرار الدوامة، أو الذهاب إلى الأرشيف المكتظ بالملفات والمراجعين- كما طُلب لإتمام بعض المعاملات- الذي ترافق بالصدفة بانقطاع التيار الكهربائي، ليصبح الأمر من المعجزات، ثم ينجز المعاملة بمنيّة وتصريح: “موشغلي بس عم ساعدهم”.
دون تخمين
على الرغم من الباب المفتوح لمدير الدائرة وتقبّله برحابة صدر تساؤلات المواطنين، إلا أن الأمور تأخذ ذلك المسار ضمن أروقة المديرية بشكل سري، ولدى مكاشفته ببعض السلوكيات لموظفيه، شدد على عدم ورود شكوى من أحد بهذا الخصوص، مضيفاً بأن هذا السلوك يلجأ إليه المراجعون دون التفكير بالشكوى التي ستكون الآلية الوحيدة لمعالجة تلك الظاهرة، مشدداً بوجوده شبه الدائم بين الموظفين والمراجعين، إلا أنها ظاهرة مترسّخة نحاول مكافحتها عبر الرقابة والمتابعة، وفيما يخص بعض الإشكاليات التي طالت قانون البيوع العقاري، بالرغم من تنظيمه الضرائب المتوجبة على العقارات، فإن تطبيقه لم يكن كاملاً لغياب الدعم اللوجستي المطلوب، إذ واجه العديد من القضايا الإشكالية التي عرقلت تطبيقه، لاسيما في الأرياف، والعقارات غير المفرزة أو الزراعية، ومناطق المخالفات، إذ تبقى معظمها دون تخمين لحين قيام أصحابها بأي إجراء مالي، حيث كشفتها شكوى أحد المراجعين التي تفيد بعدم وجود رقم أو ضريبة لعقاره، وهذا يفرض ضريبة تقريبية تبنى على وصف العقار وبعض المعلومات.
معالجة مؤقتة
رئيس دائرة مالية مدينة جرمانا شادي فاهمة بيّن أنه منذ إعادة التخمين لم يلق أية اعتراضات على تطبيق القانون، وأصبحت الضرائب منطقية، وقد تكون هناك بعض الاعتراضات الشفهية، إلا أن الدائرة لم تسجل بها اعتراضات رسمية، وفيما يخص بعض العقارات دون أرقام بيّن أن هناك بعض العقارات لم تحدد بعد كونها تقع في مناطق زراعية أو مخالفات، ولم يقم أصحابها بأي إجراء مالي، فتعالج بشكل سريع ومؤقت بوضع نسبة ضريبة تقريبية بناء على بعض المعلومات المدلى بها من قبل أصحابها كالمساحة والاتجاه والمنطقة لتحصد عدداً من النقاط يتم تقييم الضريبة بموجبها، على أن تقوم اللجان المعنية بالتخمين بعد ذلك بمدة أقصاها شهر بمعاينة العقار، واحتساب ضريبة نظامية عليه، مؤكداً أن الإجراء المؤقت جاء وفق توجيهات وزارة المالية لتسهيل الأمر، لاسيما للمراجعين بهدف تأجير العقارات.
اضطهاد آخر
رصدت الجولة جانباً آخر من الإشكاليات التي تواجه بعض المواطنين تخص جشع أصحاب العقارات، إذ يتم تحميل الضريبة المتوجبة على العقار لهم كونهم مستأجرين له، إلى جانب الاتفاق على كتابة عقد الإيجار بقيمة أقل من الواقع لتخفيض قيمة الضريبة، فيضطرون تحت وطأة الظروف المعيشية الصعبة، وصعوبة الحصول على عقار مناسب لقدرتهم المالية، لقبول ما يفرضه أصحاب العقارات، ما يشكّل اضطهاداً جديداً على المستأجر يضاف إلى الظلم الذي طاله بالأرقام الفلكية التي قفزت إليها قيمة العقارات المؤجرة وغير معلنة بالعقود الرسمية لدى المالية، وهنا لابد من الإشارة إلى أن القانون لا سلطة له في هذا التفصيل، إذ بيّن فاهمة أن الاتفاق ضمني بين المؤجر والمستأجر، ولا يمكن التدخل في هذا السياق، ولكن حث المستأجر على معرفة حقوقه، وألا يسمح لظرفه بقبول مساومة تثقل كاهله المادي، ولكنه نوّه لتصدي القانون لإشكالية إخفاء القيمة الفعلية لعقد الإيجار التي اعتمدت للتهرب من الضريبة، باعتماده على القيمة الرائجة للعقارات لجبايتها، وفي حال كانت قيمة الإيجار أكبر تحسب بموجبها- أيهما أكثر- بحسب ما جاء في نص القانون، وبالمحصلة يبقى المواطن دائماً الضحية في حال وجود القانون أو غيابه، فضعفه المادي يلزمه بمفاوضات أخرى تزيد من معاناته، فقانون البيوع العقارية فاضل بين قيمة الإيجار أو قيمة العقار ليأخذ الضريبة من القيمة الأعلى، بينما لم يصدر أي قانون يحمي المواطنين من الاستغلال لجهة ارتفاع قيمة الإيجارات التي نجمت عنه.