مصنـع الأفكار
ناظم مهنا
لعلَّ تصارع الأفكار بين الفلاسفة والمفكرين عبر العصور هو دليل واضح على أن اليقين الفلسفي كان دائماً ينقصه اليقين، فلم يستقر العالم على فكرة واحدة لزمن طويل، حتى ولو توهم العالم حقيقة ما، في عصر ما، كان يوجد من ينقضها أو يشكك بها، ثم يقوم الزمن بتقويضها.
وقد تقوضت نظرية إقليدس، والمنطق الأرسطي، ومثالية إفلاطون، ونظرية بطليموس حول مركزية الأرض، وسفهت الميتافيزيقيا، والهيجلية، والماركسية، والوجودية، والبنيوية، وعُلّقَ الصراع بين المادية والمثالية دون أن يحسم!. كلُّ هذا الجدل الشيّق أدرجه وليم جيمس تحت عنوان: «جدل في الجماليات» وقلّل من جدواه في الحياة العملية للإنسان. وليم جيمس، عالم النفس الأمريكي (1842-1910) واضع النظرية البراغماتية، والذي صبّ جام غضبه على (المطلق) الهيجلي وعلى كلِّ مطلق، وسعى إلى إقامة منهج فلسفي يقوم على التجربة الإنسانية وعلى التفكير العملي، وهو يرى أن البراغماتية اسم جديد لبعض الأساليب القديمة في التفكير، وللحق يستطيع المرء أن يلمح عند فلاسفة العرب والمسلمين براغماتية مبثوثة في كتاباتهم، مثل الإمام الشافعي، وابن حزم الأندلسي وغيرهما. والبراغماتية رغم أنَّها مذهب إنساني، خلطها الأمريكيون بالذرائعية، وغدت نمط حياة في مجتمعهم، وأسلوباً سياسياً ممقوتاً في العالم، وأعتقد أن وليم جيمس وجون ديوي بريئان من هذا الفهم الأيديولوجي لفلسفتهما البسيطة والواضحة، التي تدعو إلى الفكر الواضح وإلى تجنّب الغموض وعدم الدقة، ودعيا إلى المنهج العلمي الذي يحتوي على تجميع لكلِّ الحقائق الممكنة بعقل مفتوح. والمنهج العلمي الذي يشدّد عليه وليم جيمس يعتمد على الملاحظة والتحليل الدقيق للحقائق. وأكد أن محك التجربة هو الفيصل بين الحقيقة والزيف. وهو يرى أنَّ كلَّ الحقائق من صنع الإنسان، الإنسان هو السبب الكامن وراء كلِّ الحقائق المتعلقة بالعالم، وبأنَّ الفارق الضخم بين العقلاني والبراغماتي يكمن في أن الواقع عند العقلاني جاهز مسبقاً وكامل إلى الأبد، أما بالنسبة إلى البراغماتي فإن الواقع ما زال جاري الصنع، وبعض ملامحه بانتظار المستقبل لكي تكتمل. من الناحية الأولى يبدو الكون آمناً تماماً، ومن الناحية البراغماتية ما زال يمارس مغامراته! ويرفض وليم جيمس الميتافيزيقيا، لأنه لا يمكن اختبار صلاحيتها بالبرهان الموضوعي. ويعتبر أن البراغماتية هي الفلسفة التي لا تنطوي على أي خداع، لأنها تقوم على التجربة والاستنباط العقلي من التجربة. ويقول: «إنني أؤمن بعمق بأن تجربتنا الإنسانية هي أسمى أشكال التجربة التي في الكون». وعن دور الأفكار يرى جيمس أن وظيفتها ليست تصوير الأشياء أو موضوعات التفكير بل تحقيق وتطوير المواءمة بين الإنسان وموضوعات تفكيره.. وما يوجد حقاً هو الأشياء المحسوسة.
إذن، مصنع الأفكار يُشيّد عند البراغماتيين من مادة الواقع، والعقل والتجربة التي تصحح وتعدل نفسها نحو الأفضل.
يتحدث جيمس عن النفعية باعتبارها معياراً للحقيقة، وأن الحقيقي هو النافع والمفيد في منهج تفكير وليم جيمس وجون ديوي الذي جاء بعده، ويرى الاثنان أنَّ الإنسان الذي يستطيع أن يتحكّم بمصيره، يستطيع التأثير في النتائج العملية لحياته اليومية وأن يميّز عبر الخبرة والعمل ماهو نافع وماهو غير مفيد ومقدار فائدته أو ضرره. وهذا يجعله لا يرتهن إلى الاتكالية ولا إلى العاطفية ولا إلى التصورات والأوهام. الأمريكيون يمجدون وليم جيمس وجون ديوي وتشارلز بيرس، ويعتبرون النظرية البراغماتية مأثرتهم الفكرية العظمى، لما تتمتع به من واقعية ومراعاة للمصالح، ويضيفون عليها الكثير من حماقاتهم بالسياسة. بكلِّ الأحوال، البراغماتية في جوهرها ليست رديئة أو فاسدة، وهي، باعتقادي، تطوير للميكيافيلية، وقد يحتاجها المخطّطون في إدارة أي دولة تتوخى النجاح والمصلحة.