نظرة تدعو للتوقّف
عبد الكريم النّاعم
كلّ ما له صفة من صفات الخفاء، أو عدم الوضوح، يدفع العقل للتساؤل، حتى لكأنّ الانكشاف هو المطلوب، علماً أنّنا مُحاطون بالكثير ممّا نظنّ أنّه واضح تماماً، بينما هو يقع في دائرة الغامض، أو غير المكشوف كليّة.
الطبيعة، على ما نعرفه ليست مكشوفة كلّ الكشف إلاّ عند مَن لم يُرزَق الغوص بعيداً، بحثاً عن الجلاء في كلّ شيء ممّا يُحيط بنا، فكيف لو توقّفنا قليلاً عند مسائل كالحظّ، والدّاهم المُفاجئ، وحدوث ما لا يُتوقّع؟!!.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الذين يُسافرون في تلك الأمداء هم قلّة، يرى البعض أنّ نسبتهم هي نسبة وجود الجواهر للحصى، ممّا شغل العقل البشري في رحلته العميقة البعيدة معرفة التّماثل مع الكائنات الأخرى، وربّما كان أكثرهم انشغالاً الباحثون عمّا وراء خطوط الصورة الخارجيّة، حتى لكأنّ المُهتمّ يريد الاطلاع حتى على السرائر الخفيّة في تلك الأعماق البعيدة الأغوار.
من تلك الرؤى اللاّفتة ما أورده الجاحظ من “تماثُل بيننا وبين البهائم، وهو في الأخلاق خاصة، فليس أحد من الخلق إلاّ وفيه خُلُق من أخلاق البهائم، ولهذا تجد أخلاق العباد مُختلفة، فإذا رأيت الرجل جاهلاً في خلائقه، غليظاً في طباعه، قويّاً في بدنه، لا تُؤمَن ضغائنُه فألْحقْهُ بعالم النمورة، والعربُ تقول أجهلُ من نمر.
وإذا رأيتَ الرجل هجّاماً على أعراض النّاس فقد ماثلَ عالمَ الكلاب، فإنّ دأْب الكلب أن يجفو مَن لا يجفوه، ويُؤذي مَن لا يؤذيه، فعاملْه بما كنتَ تُعامل به الكلب إذا نبَح، ألستَ تذهبُ وتتركه؟!!
وإذا رأيتَ إنساناً قد جُبِل على الخلاف، إنْ قلتَ نعم، قال: لا، وإنّ قلتَ لا قال نعم، فألْحقْه بعالَم الحمير، فإنّ دأْب الحمار إنّ أَدْنيْتَه بَعُد، وإنّ أبْعدْتَه قرُب، فلا تنتفع به، ولا يُمكنك مُفارقتَه، (هذا كان يوم كانت الحمير من وسائل التنقّل التي لا بدّ منها)
وإذا بُليتَ بإنسان خبيث، كثير الرّوَغان، فألْحقْه بعالم الثعالب، وإذا رأيتَ مَن يمشي بين الناس بالنّميمة، ويُفرّق بين الأحبّة فألْحقْه بعالَم الظِّرْبان، وهي دابّة صغيرة، تقول العرب عند تفرّق الجماعة مشى بينهم ظِرْبان، وإذا رأيتَ مَن سيرته الدّناءة فألحقْه بعالم الخنافس، فإنّه يُعجبها أكل العذرات، وخلاصة النّجاسات، وتًنفر من ريح المسك، والورد، وإذا شمّت الرائحة الطّيّبة ماتت لوقتها، وإذا رأيتَ الرَجل يُصنّع نفسه كما تصنع المرأة لبعلها فألْحقه بعالم الطواويس، وإذا بُليت بإنسان حقود لا ينسى الهفوات، ويُجازي بعْدَ المُدّة الطويلة على السقطات، فألْحقْه بعالَم الجِمال، والعرب تقول أحْقَد من جَمَل”.
نشير في نهاية هذا السّرد إلى أنّ “الظِّرْبان” هو حيوان في حجم القطّ، أغبر اللّون، مائل إلى السّواد، رائحتُه كريهة.
أقول تلك حالات حدّدتْها كُتب التّراث، ولم يمرّوا في تلك الأزمنة بما نمرّ به الآن، فبماذا نشبّه مَن يحتكر أقوات العباد، ويرفع أسعارها الفاحشة، ويقطع مواد الحياة عن أصحابها، في أزمنة الأزمات، لا يهمّه أن يموت الناس جوعاً أو قهراً؟!.
وماذا نقول في الذين هم أصحاب مواقع يحتاج النّاس إلى مراجعتها يوميّاً، فيحبس الأوراق، ويُعرقل سيرها، غير آبهٍ بالأضرار التي يُلحقها بالمواطن المُراجِع، طلباً لرشوة علنيّة لم تعد خافية على عين؟!!.
وماذا نقول في الذين عُهد إليهم بمواقع تتعلّق بتفصيلات حياة النّاس الماديّة والمعنويّة، فركنَ إلى الجلوس على كرسيّه غير آبهٍ بالأضرار التي تترتّب على سلوكه، وهي ليست أضراراً آنيّة بل تشمل عرقلة العجلة العامّة، وتنعكس حتى على صورة المستقبل؟!!.
aaalnaem@gmail.com