مجلة البعث الأسبوعية

“إسرائيل”.. ومعنى النضال ضد الفصل العنصري

“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر

في وقت مبكر من هذا العام، ظهر تقريران رئيسيان عن الفصل العنصري الإسرائيلي من قبل منظمتين حقوقيتين: “بتسيلم” الإسرائيلية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان الدولية “هيومان رايتس ووتش”. وكان تقرير بتسيلم الذي ظهر في كانون الثاني بعنوان “نظام السيادة اليهودية من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط: هذا فصل عنصري”؛ ثم تقرير هيومان رايتس ووتش في نيسان، بعنوان “عتبة تم تجاوزها.. السلطات الإسرائيلية وجرائم الفصل العنصري والاضطهاد”. التزمت وسائل الإعلام الإسرائيلية الصمت حيال ذلك، ولا عجب أن الإنكار كان الأداة الرئيسية التي نفذت الصهيونية بواسطتها فظائعها الاستعمارية: أولاً إنكار الوجود الفلسطيني (يسرائيل زانغفيل عام 1894 “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، و”لم يكن هناك أشياء مثل الفلسطينيين الذين لم يكونوا موجودين” في عام 1969 لغولدا مئير)، ثم رفض عودتهم بعد التطهير العرقي لهم.

هذا هو النهج الصهيوني المفضل.. تظاهروا بأنهم غير موجودين، فعادة ما يكون القتال ضد خصم في الجبهات أكثر استهلاكا للوقت والطاقة من إنكار وجوده ومحاولة دفنه تحت الرمال، مثل جثث 230 فلسطينياً في مذبحة طنطورة عام 1948 المدفونة في مقبرة جماعية. ولا غرابة أن نجد مؤرخاً إسرائيلياً مثل بيني موريس يدعو إلى تطهير عرقي كامل “لأرض إسرائيل بأكملها، حتى نهر الأردن”، ثم يتظاهر أنه لم يقل التطهير العرقي مطلقاً.

ونظرًا لأن هذا الجانب من الإنكار قوي جدًا في الصهيونية، فمن المهم ليس فقط مواجهته بالواقع، ولكن أيضًا السماح لمجال الحقيقة والوقت للغوص فيهما. وإذا لم تكن 73 عامًا كافية لذلك، فقد كشف ذلك حقيقة أن إسرائيل نظام فصل عنصري.

ودون التفاصيل التي لا حصر لها والتي تكشف ذلك، ليس لدى إسرائيل مهرب من حقيقة أنها كيان فصل عنصري؛ فهي راسخة بعمق في هذا الفصل العنصري، بحيث يبدو تفكيكه مثل تفكيك الحلم الصهيوني بالتفوق اليهودي في أرض تم تطهيرها إلى حد كبير من غير اليهود.

وبينما لا تتعامل بتسيلم وهيومان رايتس ووتش مع الصهيونية كأيديولوجية، يتم إدانة الصهيونية ضمنيًا هنا، لأن هذه الانتهاكات لم تحدث للتو بل جاءت نتيجة الأيديولوجية الصهيونية.

كان الجشع الصهيوني للأرض كبيراً لدرجة أنه يقتنع بحرب عام 1967 والاستيلاء على بقية فلسطين التاريخية. ولم يكن صدفة أن أعلنت الصهيونية علانية رغبتها في “ابتلاع فلسطين بأكملها”، كما كتب دافيد بن غوريون إلى ابنه عاموس عام 1937. وبعد ذلك، عندما تم احتلال ما تبقى من فلسطين، زعمت إسرائيل بأن احتلالها مؤقت؛ وهكذا بدأت ما سمي “عملية السلام”، حيث كان من المفترض أن تعترف إسرائيل بـ “حل الدولتين” ولكنها في الحقيقة أرادت فرض بانتوستانات للفلسطينيين. وحتى الدعوات الإسرائيلية الأكثر ضجيجاً لـ “الطلاق” و”الانفصال” عن الفلسطينيين تستند إلى نفس عقلية الفصل العنصري. يريد الإسرائيليون وضعا وهميا، كما حدث مع “فك الارتباط” عام 2005 عن غزة، حيث يقولون لأنفسهم أن الاحتلال قد انتهى. يعلم الجميع أن الخروج من سجن في الهواء الطلق، وإلقاء المفتاح وحصاره عن طريق البر والماء والهواء، لا يعني “فك ارتباط”، ولا يشكل نهاية للاحتلال، وهو بالتأكيد ليس سلامًا، ولا هو نهاية الفصل العنصري.

بالنسبة لمعظم الفلسطينيين، لا شيء من هذا جديدا. فأولئك الذين تعرضوا للتطهير العرقي والحرمان من العودة يعرفون جيداً أن “إسرائيل” هي نظام فصل عنصري، حتى لو لم يتم تعريفها بهذه الطريقة قبل 73 عامًا، لكن هذا ما كان بالنسبة لهم، فـ “الأفعال التي تشكل جرائم ضد الإنسانية، والمرتكبة في سياق نظام مؤسسي من القمع المنهجي والسيطرة من قبل مجموعة عرقية واحدة على أي مجموعة أو مجموعات عرقية أخرى والتي تُرتكب بنية الحفاظ على هذا النظام” هي جوهر جريمة الفصل العنصري كما عرفتها المحكمة الجنائية الدولية، والفلسطينيون عانوا هذه الوحشية منذ عقود، ولا يحتاجون إلى محاضرة عنها.

لكن الإسرائيليين، ومعظمهم من الصهاينة، بالإضافة إلى العديد من الصهاينة الآخرين في جميع أنحاء العالم، يحتاجون إلى هذه المحاضرة، وهذه النقطة يجب أن تبرهن أن إسرائيل هي نظام فصل عنصري. سيكون هناك العديد من المدافعين الذين يزعمون أن الأمر كان من الممكن أن يكون مختلفًا لو أن “العرب” لم “يفوتوا الفرصة”، وقبلوا بما عرض عليهم. بالنسبة لهؤلاء، فإن النقطة الأساسية التي يعتمدون عليها هي إلقاء اللوم على الفلسطينيين الذين كان بإمكانهم تغيير مصيرهم ولذلك تقع على عاتقهم مسؤولية ذلك. وإذا كان هناك فصل عنصري، فإنهم جلبوه على أنفسهم.

هؤلاء المنكرون يعرفون جيداً أن الفلسطينيين ليسوا من طهروا أنفسهم عرقياً، ولا هم من قاموا بمحو قراهم، ولا هم من قاموا ببناء المستوطنات لانتزاع ممتلكاتهم من مدنهم ومن قراهم وحقولهم. إن “إسرائيل” اليهودية الصهيونية هي من يفعل ذلك، وهي التي تحاول فرض أمر واقع على الأرض التي تجعل الفصل العنصري أمراً لا رجعة فيه.

يظن الصهاينة أن هذا سوف ينجح بطريقة ما بمرور الوقت، وأن ردة الفعل الفلسطينية والعربية ستختفي، وأن الوجود الفلسطيني سوف يتلاشى، وأن المقاومة الفلسطينية سوف تتراجع بطريقة ما، وأن “التطبيع” على الرغم من الفصل العنصري سيصبح بطريقة ما أمراً واقعاً مع مرور الوقت، وأن السلام سوف ينمو على قمة الفصل العنصري.

ولكن من المقابر الجماعية الفلسطينية تستمر الأدلة في الظهور، فقد جاء في التقرير العسكري الإسرائيلي الذي أعده مردخاي سوكولر ويوسف غراف وكلاهما من مستوطنة زخرون يعقوب كانا يرافقان وحدات الهاغاناه الذين نفذوا مذبحة طنطورة (9 حزيران): “لقد اهتممنا بالمقبرة الجماعية، وكل شيء على ما يرام”. بعد ثمانية أيام، عدنا إلى المكان الذي دفنناهم فيه بالقرب من السكة الحديد”. وقال التقرير: “كان هناك كومة كبيرة للجثث”. هذه الأشياء لا تختفي مع مرور الزمن. إنها تروي ما حدث لسنوات عديدة قادمة، حتى بعد أن أصبحت الجثث عظامًا.

نعم، ربما كان الأمر مختلفاً. لكن كان من المؤكد أن تسير الأمور على هذا النحو إذا كنت تطمع في أرض يشغلها أناس حقيقيون عاشوا هناك في مجتمع متماسك ومزدهر لقرون، إذا أنكرت إنسانيتهم ​​وحتى وجودهم وأخضعتهم لأبشع الفظائع ثم أنكرت قيامك بذلك فهل سيكون الأمر مختلفًا. وهل من الغريب أن إسرائيل في حقيقتها ليست “الديمقراطية الوحيدة” المزعومة، بل إنها في الحقيقة “دولة” تفرقة عنصرية؟

لا يبدو هذا غريباً لأولئك الذين أدركوا طبيعة الصهيونية كحركة استيطانية استعمارية، ولم ينخدعوا بأساطير “أرض الميعاد” و”الديمقراطية اليهودية” المزعومة. لكن بالنسبة لأولئك الذين انساقوا وراء الصهيونية فقد يكون هذا وقت تصويب رؤيتهم. لكن الصهيونية لا تستطيع الهروب من إرثها الإجرامي الاستعماري، وكل العناصر الموجودة في حل الحقوق المتساوية تتعارض تماماً مع الصهيونية، فلطالما أن الصهيونية هي فصل عنصري. وبالتالي، فإن إلغاء الفصل العنصري يعني بشكل فعال إلغاء الصهيونية ودفن فكرة التفوق المزعوم، التي هي صميم الصهيونية، على الرغم من تجميلها.

هذا ما يريد الصهاينة تجنبه. ولهذا السبب سوف يسعون لتشويه أو تجاهل تقارير الفصل العنصري. ولهذا السبب يحاربون المحكمة الجنائية الدولية. ولهذا السبب سوف يلقون على أولئك الذين يشيرون إلى الجرائم الصهيونية تهم “معاداة السامية”، ولن يقبل الصهاينة التخلي عن التمييز العنصري، لأنه – كما قال فريدريك دوغلاس – “السلطة لا تعترف بأي شيء بدون طلب .. لم تفعل ولن تفعل ذلك أبداً”. ولا يرى الصهاينة أن الطلب قوي بما يكفي في الوقت الحالي، وهم يسعون إلى محاربة حقوق الفلسطينيين وإضعافها بدلاً من ذلك، والحفاظ على الاحتلال والاستيطان، وتجريم النضال ضدها. هذا هو المكان الذي لا يمكن أن تذهب فيه الحجج الأخلاقية إلى أبعد من ذلك. ولذلك فإن أولئك الذين يسعون فعليًا إلى وضع حد للفصل العنصري الإسرائيلي يجب أن يستخدموا الوسائل والسياسات التي من شأنها إضعاف نظام الفصل العنصري، ولا يمكن أن يكون ذلك بمجرد الكلام. وهذه الوسائل معروفة: المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات، وعندها سيكون الكفاح من أجل إنهاء الفصل العنصري أكثر جدوى بكثير.

ذات يوم، بعد إلغاء الفصل العنصري لإسرائيل، سيأتي العديد من هؤلاء الناس ويقولون كيف عارضوا ذلك وكيف لم يعجبهم. إذا كانوا يتوقعون حقاً إنهاء الأمر. الآن بدون مقاطعة إسرائيل، يبدو ذلك حلماً، فالأمر خطير للغاية: إسرائيل دولة تفرقة عنصرية.