الحلم الأربعيني
سلوى عباس
اليوم، أضعُ نقطة في نهاية السطر الأخير من مشواري الوظيفي الذي امتد لأربعين عاماً. اليوم، ألملم ذكريات الأمس البعيد والقريب.. ذكريات أتعبني بعضها وأسعدني بعضها الآخر.. ذكريات أستحضرها الآن كجزءٍ من تاريخي الذي عشته في صحيفتي “البعث”، هذا التاريخ الذي أحبّه -رغم بعض المحطات المؤلمة فيه-، أحببته بحضور أصدقاء وزملاء رافقوني في مشواري وما زالوا يرافقونني في نسج الحلم بأطيافه الملوّنة ويتقاسمون معي رغيف الحياة بكل نكهاتها.. ومعهم أنا أقوى، فهؤلاء أسرتي التي أحبّ، وسيبقون عوناً لي على الاستمرار في نسج حلم جديد يواصل طرح أوراقه البنفسجية.. حلم ترافقني فيه الكلمة في المنبر ذاته الذي أحببت والذي منحني فرصة أن أعبّر من خلاله عن نفسي وأفكاري وانتمائي، وأن يكون وسيلتي للتواصل مع الآخرين، وسيتجاوز الحلم سنواته الأربعين ليبقى يشعّ من هذا المنبر الغالي، وربما الميزة التي ظفرت بها والتي ساعدتني في مشواري الإعلامي أنني من جيل نهل ثقافته ومخزونه المعرفي من أعلام كانت الثقافة بالنسبة لهم هي الضرورة الأولى في رفعة المجتمع وتطوره، فكانوا بوصلتي التي شكلت مخزوناً ثقافياً ومعرفياً، وبعد أن استلمت موقعاً يؤهلني لاستقطاب الأقلام الصحفية والأدبية كان التعاون بلا ضفاف مع عدد من الكتّاب والمثقفين الذين شكلوا إضافة وقيمة حقيقية لصفحتنا الثقافية وأغنوها بأفكارهم ومواضيعهم التي طرحوها، وأغنوا ذائقتي وأفكاري بنقاشاتنا الدائمة التي اختلفنا واتفقنا فيها حول مايكتبون، لكن هذه الاختلافات لم تفسد لودنا قضية.
لعلّ المسألة الأهم في عملي الصحفي تجلّت بمسؤوليتي تجاه جيل من الصحفيين الذين تشربوا معطيات هذا العصر بكل ما أتاحته ثورة المعلومات من تقنيات وأدوات، صحفيون شباب جمعني بهم العمل، لكن اهتمامي الأكبر تركز على الصحفيين في القسم الثقافي الذي أشرف عليه، وشكلت معهم فريقاً أسرياً مهنياً يعتمد أسلوب التبادل المعرفي في التعاطي، وهذه أمانتي تجاه جيل سيتولّى في يوم ما البوصلة الإعلامية، ومن واجبي أن أضعهم على الطريق الصحيح الذي يجعلهم ينجحون في عملهم، وعملت على تقريب المسافة العمرية والمعرفية بيني وبينهم بما يتناسب مع رؤيتي ورؤيتهم للصحافة، وكثيراً ما كنّا نتناقش ونتبادل الأفكار بخصوص أي فعالية نحضرها معاً، وأعترف أنني اغتنيت بآرائهم واستفدت منها، فبيدهم مشعل الغد الذي أتمنى أن يكونوا رواداً فيه، لأن الصحافة كما أي عمل إبداعي آخر تقوم على التراكم الثقافي والمعرفي، وهذا الشغف المهني تغذيه المثابرة والاهتمام، ولعلي كنت بمستوى المسؤولية تجاه نفسي وتجاه عملي وزملائي، وأن أكون قد أوصلت جزءاً من الرسالة الإعلامية التي حملتها خلال مسيرتي الحياتية والمهنية.
هكذا هي الحياة.. تضعنا دائماً على مفترق النهايات، نتنقل من محطة إلى أخرى عبر مسيرة تبدو فيها أقواس القزح ذكريات من ماضٍ ونسيان.. وسيجد كل واحد فينا نفسه في محطته الأخيرة والحلم يعاند اللحظة ولا يزهر كما نرغب، أو كما اعتدناه، فما من نجاح دائم ولا مجد يستمر، كما تقول سيدة صباحاتنا “فيروز” وجميعنا نعرف هذه الحقيقة لكننا لا نتوقف ونسير صوب محطتنا الفارغة إلا من بقايا ذكريات، وقد يحدث أن نلتقي بمحطة ترقص فيها الشمس، فنلجأ إلى صباح يسند قلبنا الذي أوجعته الوحدة بسرّ الكلمة، ونتصدّق بالنقاء عندما يطاردنا الألم، لتورق دروبنا بالحب، فالصباحات مملة إذا لم تشرق قلوبنا بنور الأمل، لأنه الوجه الأجمل للحياة.