دراساتصحيفة البعث

تعقيدات الوضع السياسي الألماني

محمد نادر العمري 

يتسم النظام السياسي الألماني بعدد من السمات الظاهرة في طبيعة ملامح أحزابه السياسية، حيث يستند هذا النظام إلى مبدأ التعدديّة السياسية التي تشمل أكثر من ثلاثة أحزاب عاملة في الساحة العامة، وحسب الدستور الألماني فإن مهمة هذه الأحزاب تتجسّد في بناء الوعي السياسي وتنظيم الإرادة العامة. وعلى الرغم من أن النظام الألماني كان يصنّف بأنه أكثر الأنظمة تجزءاً في أوروبا في فترة مابين الحربين، إلا أنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبعد تبني الدستور الجديد بات يعتمد على التمثيل النسبي. ورغم ذلك بقيت دائرة التنافس الفعلي على إدارة الحكم والسيطرة على السلطة في ألمانيا تنحصر بين قوتين رئيسيتين هما الاتحاد المسيحي الديمقراطي (المؤلف من الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي) والحزب الاشتراكي الديمقراطي، حيث بات الحزبان الوحيدان قادرين على تشكيل الحكومة بشكل منفرد مع ائتلاف من باقي الأحزاب الأخرى أو بشكل ائتلافي، وهو ما كان يُسمّى بحكومات التحالف الكبير أو التاريخي كما حصل بعد انتخابات 2005 و2007 و2017.

ولكن ما يحصل اليوم بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت مؤخراً من العام2021 بات الوضع معقداً حتى وصف من قبل صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية بأنه من الصعب التكهن بمن سيدير البلاد بعد خروج ميركل من السلطة بعد 16 عاماً على تسلمها منصب المستشارة الألمانية، فالحسابات دقيقة وقد لا تنتهي عقدة التأليف والتشكيل والحوار في أشهر قليلة، فاليسار الذي فاز بفارق ضئيل عن المحافظين يسعى لاستقطاب القوى الأخرى وإبقاء حزب ميركل خارج السلطة، وهو ما عبّر عنه بكل وضوح وصراحة زعيم الحزب الاشتراكي والذي يطمح لمنصب الاستشارية أولاف شولتز بأنه يفضّل تحالفاً مع الخضر والليبراليين في السيناريو المفضل لديه، ولا يحبذ العودة للشراكة مع الاتحاد الديمقراطي لأسباب قد يكون أبرزها رغبة شولتز الاستئثار بالسلطة ومحاولة تحميل خصوم حزبه التقليدين مسؤولية أي فشل والعمل على تجزئتهم وتشويه صورتهم أمام الرأي العام الداخلي.

وهو ما تنبّهت له مسرعة المستشارة الحالية ميركل التي سارعت في المقابل لمحاولة تحسين تموضع حزبها ومنع حصول الانقسام داخله وتقوية موقفه -بعد أسوأ نتيجة حققها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية- في جذب حزبي الخضر والليبراليين للائتلاف معه وعدم السماح للاشتراكي الألماني بتشكيل الحكومة، فحضّت الألمان على حماية الديمقراطية إزاء انتشار ماسمّته بـ”الغوغائية” عندما حثت الألمان الغربيين على إبداء مزيد من “الاحترام” لمواطنيهم الشرقيين، بعدما شهدت الانتخابات التشريعية في شرق ألمانيا تأييداً قوياً لليمين المتطرف أرجعه البعض إلى شعور جزء من السكان بأنه تمّ التخلي عنهم.

وعلى الرغم من أن نتائج الانتخابات ليست متباعدة بين الديمقراطي والاشتراكي، حيث حقّق الأول ما نسبته 24.1% فقط من الأصوات بتراجع 9 نقاط مقارنة بالانتخابات التشريعية عام 2017، في المقابل يمتلك الثاني عنصر تفوق بحصوله على نسبة 25.7% من الأصوات، فإن هناك حقائق لابد من ذكرها هنا:

أولاً: هناك رغبة لدى الحزب الاشتراكي بتشكيل الحكومة والحصول على منصب المستشارية بعد احتكاره لما يزيد عن 16 عاماً من قبل الديمقراطي، وذلك من خلال إقصاء الاتحاد الديمقراطي من موقع للمعارضة.

ثانياً: هناك رغبة من حزب المسيحي الديمقراطي بزعامة أرمين لاشيت المدعوم من ميركل بالبقاء في منصب الاستشارية للحفاظ على ماحققته ميركل من إنجازات اقتصادية داخلية وعلاقات متوازنة على الصعيد الخارجي والمحيطين الأوروبي والعالمي، وبما حقق لألمانيا نوعاً من التوازن والاستقلالية في القرار.

ثالثاً: بات شبه محسوم أنه لن يستطيع أي من الحزبين تشكيل الحكومة إلا بالتحالف مع حزبي الخضر والليبراليين، فقد حصل كل منهما على أصوات في الانتخابات الأخيرة بنسبة 14.8% و11،5% على التوالي، عبر تحالف إشارة السير أو “أمبل” نسبة إلى ألوان الأحزاب الثلاثة بالنسبة لطموح ومسعى الاشتراكي، فيما قد يلجأ المحافظون إلى التحالف مع الخضر والليبيراليين وتشكيل تحالف “جامايكا” نسبة إلى علم دولة جامايكا، إلا في حال الوصول لسيناريو يبدو مستبعداً نوعاً ما حتى اليوم ويتضمن حصول توافق بين الديمقراطي المسيحي والاشتراكي في تشكيل ائتلاف كبير مجدداً.

في ظل كل هذه التعقيدات التي تتحكم بالمشهد السياسي الألماني، سواء من ناحية التشكيل الذي ربما سيستمر لأشهر طويلة، أو من ناحية التوازنات القائمة على ميزان من الذهب في ظل تناقض التوجهات، أو من ناحية الأوضاع المتردية والناجمة عن تداعيات موجات كورونا وما نجم عن الفيضانات التي اكتسحت المدن الألمانية، يبدو أن تعقيد تشكيل الحكومة سيكون له ارتدادات على وضع الأحزاب السياسية الألمانية في الداخل، كما سينعكس على وضع ألمانيا خارجياً، لذلك قد يكون التوجّه نحو تشكيل ما يُسمّى “حكومة الحكومات”، وذلك بضم الأحزاب الأربعة هو الخيار الأمثل وفق تعبير أحد المواطنين الألمان في ظهور له على وسائل التواصل الاجتماعي عندما وجّه رسالة مفادها: “نحن نغرق في المياه والطين وأنتم تغرقون في أحلامكم السلطوية”!