تكساس على خطى كاليفورنيا.. “الانفصال” يطرق أبواب الولايات المتحدة
البعث الأسبوعية- قسم الدراسات
عادت نغمة انفصال ولايات أمريكية إلى الواجهة من جديد، وهذه النغمة أتت بسبب سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة بغض النظر عن انتمائها الحزبي التي تراها عدة ولايات أنها مدمرة للبلاد، مثل ما أكده السيناتور الأمريكي تيد كروز قبل أيام بضرورة انفصال ولاية تكساس نتيجة سياسات الإدارات التدميرية. والسياسات التدميرية التي ركز عليها كروز هي تعطيل وتدمير البلاد بشكل أساسي، وتعديل نظام المحكمة العليا، وتحويل العاصمة واشنطن إلى ولاية، وإضفاء الفيدرالية على الانتخابات مع توسيع نطاق التزوير فيها بشكل كبير.
يبدو أن حلم “الاستقلال” لم يفارق عدد كبير من الولايات الأمريكية، ومن بينها تكساس التي تتحمل مسؤولية إضافية أمام الولايات المتحدة كونها قوة كبيرة تمنع أمريكا من الانزلاق إلى الهاوية وأنها تحافظ على قيم أمريكا الراسخة، بحسب ما يحاول أن يروج له دعاة الاستقلال. لكن في الواقع يبدو أن الأمر أعمق من ذلك بكثير، وهو أن دعاة الاستقلال في ولاية تكساس ازداد حلمهم بعدما صوت البريطانيون لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء شعبي. وقد ذكر دانيال ميللر، رئيس حركة “تكساس القومية”، أن التصويت الذي قاده المواطنون في بريطانيا يمكن أن يكون نموذجاً لتكساس التي كانت مقاطعة مستقلة بين عامي 1836 و1845.
هذه الدعوة ليست جديدة فقد سبقتها مطالبات كثيرة للاستقلال، خاصةً بعد تزايد حدة الاستقطاب السياسي والفكري في الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة. ويقول بيرنارد غروفمان، خبير العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا في إيرفين: “إن المشهد السياسي يخيم عليه استقطاب حاد لم نشهد له مثيلاً إلا في حقبة ما بعد الحرب الأهلية في التسعينيات من القرن التاسع عشر، إذ لم نر الكونغرس الأمريكي منقسماً إلى هذا الحد منذ ما يربو على أكثر من 100 عام”.
لم تكن تكساس استثناءً، فقد سبقتها كاليفورنيا إلى ذلك بسنوات بعد أن تعمقت الانقسامات في الأعوام القليلة الماضية، سواء داخل ولاية كاليفورنيا أو بينها وبين سائر الولايات الأمريكية، وأشعلت شرارة ست محاولات على الأقل لتقسيم الولاية إلى ولايات أصغر أو فصلها كلياً عن الولايات المتحدة الأمريكية.
وتقول مونيكا توفت، أستاذة السياسات الدولية بكلية فليتشر بجامعة تافتس في مدينة بوسطن، إن هذه المحاولات لاقت تأييداً من فئات عديدة، برر بعضهم ذلك التأييد بأن الحكومة الفيدرالية لم تعد تمثل مصالح الولايات اقتصادياً، بينما ذكر البعض الآخر أن ولايات بحجم تكساس وكاليفورنيا لا يمكن تنظيمهما بشكل ملائم إلا إذا قُسمت إلى ولايات أصغر.
لكن حتى الآن لا يعترف الدستور الأمريكي بحق الولايات في الانفصال، ولا يوجد ما يكفي من الأدلة لإثبات أن غالبية سكان الولايات يؤيدون الانفصال، إلا أن مناقشة تداعيات انفصال الولايات تفتح الباب لتساؤلات عديدة حول توازن القوى والتفاعلات السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية.
هل يتطور الأمر إلى حرب أهلية؟.
إذا كانت النوايا حقيقية للاستقلال، فإن السؤال المطروح هو ما مدى احتمالية تفجر أعمال عنف حتى لو في صورة حرب أهلية؟. صحيح أن اندلاع حرب أهلية ثانية في الولايات المتحدة يبدو مستبعداً، لكن سكان الولايات الجنوبية لم يدر بخلدهم أن يسفر قرار الانفصال عن الولايات الشمالية الأمريكية عام 1861 عن نشوب صراع امتد لسنوات، إذ حصدت الحرب الأهلية آنذاك أرواح 620 ألف أمريكي واهتزت لها أركان الدولة.
وطالما أسفرت الحركات الانفصالية على مر التاريخ عن أعمال عنف، إذ ردت باكستان على قرار بنغلاديش بالانفصال عام 1971 بالإبادة الجماعية والاغتصاب الجماعي. ودامت حرب استقلال إريتريا عن إثيوبيا 30 عاماً. وعلى النقيض، انفصلت بعض الدول دون إراقة قطرة واحدة من الدماء، مثل جمهورية التشيك التي انفصلت سلمياً عن سلوفاكيا، ومثل إجراءات انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي سلمياً، رغم المحادثات الصاخبة.
يقول ستيفان سيديدمان، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كارلتون في العاصمة الكندية أوتاوا، إن مسألة نشوب أعمال عنف من عدمه ستتوقف على ميول من يتولى مقاليد الحكم في البلاد وموقفه من الانفصال. وخلافاً للحرب الأهلية الأولى التي اشتعلت بسبب العبودية، لا توجد قضايا محورية تؤجج الانقسام بين سائر الولايات الأمريكية، وهذا ما يجعل أغلب الباحثين يستبعدون نشوب حرب داخل الولايات الأمريكية.
يقول بريندان أوليري، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بنسلفانيا: “لا وجه للمقارنة بين سكان تكساس وكاليفورنيا وبين الكتالونيين في إسبانيا أو الأسكتلنديين والأيرلنديين في المملكة المتحدة، ولا أتخيل أن يطيع جنرالات من البنتاغون أوامر عليا باحتلال هاتين الولايتين بقوة السلاح”.
العامل الاقتصادي
سيضّيع انفصال تكساس وكاليفورنيا على الولايات المتحدة إيرادات ضريبية ضخمة، إذ تبلغ الإيرادات السنوية لشركة آبل وحدها 266 مليار دولار، وقد يتلقى الاقتصاد الأمريكي ضربة قوية. وستتوقف شدة التداعيات على الاقتصاد الأمريكي على الاتفاقيات التجارية التي سيبرمها الزعماء لرفع الحواجز الجمركية أو فرضها، لكن في النهاية ستتكبد الولايات المتحدة لا محالة خسائر جسيمة. ويقول أوليري: “سيتهاوى سعر الدولار مقابل العملات الأجنبية، وقد يحل محله اليورو أو اليوان الصيني في صدارة العملات العالمية”. وربما تفقد الولايات المتحدة بعد الانقسام مكانتها الدولية، وقد توضع علاقاتها الوثيقة مع الحلفاء على المحك. وفي ظل صعود التيار اليميني في الولايات المتحدة، ستتوثق العلاقات بينها وبين الدول التي تهيمن عليها الأحزاب اليمينية، مثل المجر وروسيا، وقد تسوء العلاقات بينها وبين كندا، وكذلك بينها وبين المكسيك.
في حين أن تكساس وكاليفورنيا ستصبحان حليفاً جذاباً للدول التي تنتهج سياسات ليبرالية. ويقول سيديدمان: “سيتبلور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، بمشاركة عدة قوى دولية، كالولايات المتحدة والصين وكاليفورنيا والهند وغيرها، ليسدل الستار على احتكار الولايات المتحدة للقوة والسلطة، وستزداد أهمية التحالفات الدولية”. وقد تستقطب الدولتين الوليدتين المهاجرين، وستظل أبوابهما مفتوحة على مصراعيها أمام المبتكرين من مختلف بلدان العالم. يقول غروفمان: “يميل البشر فطرياً للنظر إلى العالم على أنه معادلة صفرية، فكلما زاد عدد الأشخاص في المعادلة، سيزداد عدد المستفيدين وستقل أنصبة كل منهم. أي أن كل ما تربحه أنت، سأخسره أنا، وستكون المحصلة في النهاية صفر”.
وقد تزداد الحركات الانفصالية في الولايات المتحدة، فربما يشعر سكان الجزء الشمالي الشرقي من الولايات المتحدة بالتهميش، وقد يدفع اليأس من تحقيق أغلبية برلمانية المنطقة الممتدة من ولاية ميريلاند إلى ولاية مين شمالاً وحتى ولاية بنسلفانيا غرباً إلى الانفصال عن الولايات المتحدة.
وبعد انفصال الشمال الشرقي، قد يتوالى ظهور الحركات الانفصالية في الولايات التي تمتلك مقومات اقتصادية وتعداد سكاني يكفلان لها البقاء والاستمرار كدويلات مستقلة. وبعبارة أخرى، فإن انفصال تكساس وكاليفورنيا قد ينذر بنهاية الولايات المتحدة.