“مسرى النور” بين المقاومة الفلسطينية والحرب الإرهابية وأشياء أخرى
“أيلول الجرح المستعصي
والمتمرد والمذهول”..
قصيدة أيلول التي أشارت إلى أحداث أيلول الأسود والجرح النازف، أدرجت ضمن دفتي المجموعة الشعرية للشاعرة د. حنان أمين حيرب، الصادرة عن دار سين، والمعنونة بأحد فصول المجموعة “مسرى النور” الذي باحت به بآلام فقد والدها الذي كان ينتظر عودتها للشعر:
“لم يزل خبر الرحيل معلقاً
ما بين ماء العين والقلب الحريق”
تنويعات
ومن دلالات العنوان نقرأ طريق الأمل والضوء والشمس إلى تنويعات بعناوين القصائد بين فعل الأمر والماضي والكثير من التساؤلات، مستخدمة أساليب الإنشاء، الأسلوب الخبري، بالاعتماد على المبتدأ وما ينوب عن الخبر، إضافة إلى إثارة المعنى مثل “هذا الصباح – إلاك – ماذا نسيتُ في هذا المكان- حبنا الكبير في خطر”، كما أعادتنا إلى جمالية القصة الشعرية المقسمة إلى فصول، عنوّنتها بإيحاءات تشي بمضمونها وتبوح بمكنوناتها القريبة البعيدة “المحبة لا تحتمل المزاحمة، خفقة الشعر، حنين – الحب، ذاك السر، مسرى النور، و…”.
الفيروز والماس
تميّزت باختيارها مفردات من الطبيعة التي ترتبط بانعكاساتها على الحالة النفسية، فاستمدت صورها وتراكيبها من المطر والسحاب والضباب والبحر والزورق، ومن الأحجار الكريمة والفيروز والماس بانسيابية أسلوبها الرقيق، الذي يتسرّب دون استئذان إلى القلب عبْر إيقاع قصيدة النثر وموسيقاها المتغيرة بين المطوّلات والقصائد القصيرة برسم شكل مفرداتها الذي يقلّ تدريجياً لينتهي في قصائد بمفردة “علامَ، لا أبتغيه، ياربي، يا أبي” مبتعدة عن الغموض وازدحام المفردات لاستعراض مخزونها اللغوي، فنقلت هواجسها الذاتية والمجتمعية والعروبية بلغة تقترب من الحدث بواقعية التراكيب المفهومة.
المكان والزمان
ففي فصل حنين كان المكان عنصراً أساسياً يثير الذاكرة إلى صور وجوه غائبة، فتفقدت كل الزوايا والحقائب لتصل إلى المرايا المحمّلة بحكاياتها:
“لماذا أحسّ بأني تركتُ المرايا حكايا
وأني هنا في الزوايا
تركت انتمائي
سمائي”
وتمكنت حيرب من ربط المكان بالزمان في قفلة حزينة:
“نسيتُ به ما لايعود
نسيتُ الزمان”
والملفت تحاورها مع سلطان الشعر الذي جفاها بأسلوب إنشائي معتمدة فيه على السؤال؟ ففي قصيدة طائر الشّعر تتساءل بحزن واستغراب عن ضياع مقامات الهوى والشاعرية:
“آه يا طائر الشعر المغرّد في فضاءات علية
هل ترى أقصتك عني
لغة حسابات في معادلة شقية”
مقاربة الخيانة
اتخذ الحب صوراً مختلفة بين التقارب والألفة وبين الفراق وبين الأقدار التي تتحكم بمسرى المشاعر وبين وخزة الخيانة، إذ لجأت إلى شخص ثالث تستدرجه وترجوه الاعتراف بالحقيقة في قصيدة قائمة على التماوج بين السؤال ووصف حالها، فتشد القارئ إلى حالة الصراع الدرامي بين امرأة تتعذب وسعادة يعيشها الرجل الخائن مع امرأة أخرى، فيبدو تأثرها الواضح بقصيدة نزار قباني “رسالة من سيدة حاقدة” كما قال:
أم أن سيدة لديك
تحتل بعدي ساعديك
فتقول د. حيرب في قصيدة “أيهواها”:
“أناشدك الإله أجب
رأيتهما يسيران؟ وفي عينيه عيناها؟
أيشرق نور عينيه إذا ما هلّ مرآها؟
أنت صديقه الغالي وتعرفه
أيرمي قصتي عبثاً وينساها؟”
غسان كنفاني
ومن خلال صور الحب استحضرت ذكرى المناضل الأديب غسان كنفاني بعنوان قصته “كعك على الرصيف” التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي “مازال كعك على الرصيف” فوظّفتها حيرب لتسرد من خلال عنوان القصة حكاية التعارف بينها وبين الحبيب بالحديث عن حكاية الشهيد التي وثقت عذابات الفلسطينيين ونضالهم الصامت بالمخيمات والصارخ بأزيز الرصاص “ستلمسين في سطورها أسرارنا”، إلا أنها تعود إلى الذاتية في القفلة الحزينة مستغربة هذه النهاية التي وصلا إليها:
“من قال تنطوي صفحة من ودنا الأليف
هكذا
بعد بركان مخيف”
أسلوب التكرار
وعمدت في هذه القصيدة إلى تكرار السؤال باستخدام الهمزة “أتذكر” مستهلة به المقطع الأول وتعيد السؤال بصوت الحبيب “أتقرئينها” ومكررة أيضاً في المقطع ذاته مفردة عشرين “عشرين مرة قرأتها، عشرين مرة فيها بكيت” متمثلة أسلوب التكرار كجمالية بلاغية من أساليب البلاغة.
وفي جانب آخر كثُرت في المجموعة الوجدانيات وتأملات الذات المقهورة، كما في قصيدة “أخلو لنفسي” وعادت فيها إلى التكرار اللفظي لمفردة أحسّ لتأكيد المعنى بأسلوب جميل.
أخلو لنفسي في المساء قليلاً
فأحسّ أني قد غدوتُ جميلة
وأحسّ صوتي عاشقاً
وقصيدتي مزهوة
وأحسّ حزني في المساء جليلا
وترى د.حيرب أن حياتنا تبقى مؤجلة بسبب الحلم الذي ننتظره “حلمنا الذي لأجله حياتنا مؤجلة”، وتجيب أيضاً بسؤال “فهل إذا التقينا تنتهي حكاية السراب”.
أوجاع المهجّرين
كما نلمح انعكاسات الحرب على حياة كثيرين غادروا البلد عبْر تساؤلات الأم الخائفة وإخفاء أوجاع الأبناء الأقسى من الحرب عبْر قصائد عدة، منها “الصوت الثاني في الهاتف”:
وصوت القلب راح يجيب في السر
موجوعون يا أمي ونخفي حرقة القهر
وتكمل الشاعرة تساؤلاتها عن أوجاع الناس والتغييرات التي طرأت على حياتهم مستخدمة أداة الاستفهام أين؟ وما للاستفهام؟ بتتالي الجمل الاستفهامية الصغيرة التي شكّلت جرساً موسيقياً متناغماً ونسقاً تشكيلياً منظماً وموزوناً “أين العطور تدفقاً؟ أين العيون تألقاً؟” لتصل إلى الموت والخراب والدمار ويكون آخرها الردى”.
كما تطرقت إلى جائحة كورونا بقصيدة “الحب في زمن الكورونا” تبوح بأوجاع أم تبتعد عن ناظري صغيرها خوفاً عليه “أهرب منك وأخفي وجهي عنك”.
مجموعة “مسرى النور” بلغت مئة وأربعين صفحة، وعرضت ضمن إصدارات جناح دار سين في المعرض السوري للكتاب في مكتبة الأسد.
ملده شويكاني