وُجوم
عبد الكريم النّاعم
جلس صديقي، ولم أشعر أنّ لديّ أيّة رغبة بالكلام، وهذا مُحرِج لكلينا، رغم رفع الكلفة، ومرّت فترة من الصمت، أحسستُ أنّ ثقلها كان على روحي وحدها، فهو ضيفي، وأحسب لحساسيته ألف حساب، وأعرف شخصيته الودودة المتوتّرة، ولكنه بادرني: “يبدو عليك أنّك كنتَ ساهماً قبل مجيئي”.
قلت: “بل قلْ ما هو فوق السهوم، فأنا كنتُ (واجماً)”.
قال: “عساه خيراً، هل من جديد”؟
قلت: “في بعض اللحظات ينطبق علينا قول “تساوى الماء والخشب”، أمّا الجديد ففي كلّ لحظة ثمّة جديد، الزمن لا يتوقّف من أجل أحد، وكما تعلم ما كلّ جديد يسرّ الخاطر، فقد يكون جديداً يزيد الطين بِلّة”.
قاطعني: “لقد أقلقتني، هل وردك خبر غير سار، أم حدث شيء لغالٍ عليك”؟.
قلت: “لا هذا ولا ذاك، أنا في حيرة من أمر كتابة زاوية”.
فاجأني بضحكة مجلجِلة خرجت من صدره وقال وهو يقهقه: “أهذا أمر يتوقّف عنده واحد مثلك أمضيتَ فيه ثلثي عمرك في الكتابة، ولك عشرات الدواوين والكتب، وتقف واجماً عند كتابة زاوية، لا أكاد أصدّق”؟!!
قلت بنبرة مَن يدافع عن نفسه: “بل صدّقْ وكنْ على ثقة ممّا أقوله لك”.
قال: “معنى ذلك أنني لم أفهم عليك، فهل تستطيع إدخال هذه المقولة إلى دماغي الذي يرى حوله كلّ ثانية شيئاً يمكن أن يكون مادة للكتابة”.
قلت: “يا صديقي المشكلة ليست في القدرة على التعبير، أو في وجود ما يُكتب عنه، ولكنّها في أن تعثر على ما يكون صالحاً للنشر”.
عدّل من جلسته وقال بحماس واضح: “هل عدنا لمشكلة “الرقيب” الذي كان يُقرّر ما يُنشر وما لا يُنشَر”؟!!
قلت: “ليس كما ذهبت، هناك في كلّ بلدان العالم حدود لما يُسمح بنشره، ولا تخدعك دعاية الغرب فيما يزعمه من حريات، فهو يطلقها حين لا تمسّ بمسائل تعتبرها السلطات مناطق محظورة، هو حرّ في أن يكتب عن الجنس ما يشاء، وعن بعض الظواهر، ولكنّه ليس حرّاً في أن يكتب، مثلاً، عن أنّ ما زعمتْه الصهيونيّة عن الهولوكست هو مضخّم عشرات المرات، وإلاّ نال ما يستحق، بل وثمة دول سنّت قوانين تقضي بملاحقة وسجن من ينفي ذلك، فهل هذه حريّة؟!.
تكتب وأنت حذر من أن تدخل في حقل ما، تُخمّن أنه لا ينسجم مع خطّ الصحيفة التي تكتب لها، وتحذر أن تنزلق عن غير قصد إلى ما لا يُعجب بعض المواقع المحدّدة، وتريد بصعوبة بالغة أن توازن بين قناعتك، وبين الواقع، وأنت تضع في اعتبارك ذلك القارئ، لا يغيب عن بالك، فهو يطالبك ضمناً بأن تكون ضميره، والمعبّر عن تطلّعاته، وحتى يتمنّى لو يستطيع أن “يفشّ” خلقه عبر ما تكتبه، وحين تقصّر في ذلك تُخلق فجوة عميقة بينكما أنت لا تريدها، وهو لا يستطيع تجاوزها، وثمّة مَن يتابعك، ولقد ازدادت أعداد المتابعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولعلّها زادت عمّا كان يُقرأ ورقيّاً، أضف إليه أنّنا صرنا أمام جيلين بينهما هوّة عميقة، أعني جيل الشباب، والجيل الذي غادر محطّة الشباب، فجيل الشباب ما يكاد يقرأ إلاّ ما ندر، وكلّ أحلامه أصبحت محصورة في الهجرة إلى أي بلد غربي، بحثاً عن مصدر عيش له وربّما، في الغالب لعائلته، وثمّة الجيل الآخر الذي يحلم بالعودة إلى ما كنّا فيه، أو بالخروج من هذه المناطق الضاغطة حتى الغرغرة، وضمن هذه المساحة عليك أن تتحرّك وتكتب، أولا يدفع ذلك إلى ما هو أكثر من “الوجوم”؟!!
وَجمَ ولم يردّ..
aaalnaem@gmail.com