مجلة البعث الأسبوعية

طريق الحرير وموانئ التنمية

“البعث الأسبوعية” طلال ياسر الزعبي

يخشى المراقب لكل ما جرى في العقد الماضي من أحداث في المنطقة العربية على خلفية ما سمّي “الربيع العربي”، أن يستيقظ يوماً ما على حقيقة أن جميع الصراعات التي جرت في هذه المنطقة كان هدفها اقتصادياً بالدرجة الأولى، حيث تؤكد جميع المعطيات اللاحقة لهذه الأحداث، فضلاً عن اعترافات المسؤولين العرب الذين تورّطوا مباشرة في صناعة هذه الأحداث، أن محور هذه الأحداث كان اقتصادياً بالدرجة الأولى في جوهره، من قبيل الحصول على امتيازات نفطية واستثمارات وما إلى ذلك.

وأيّاً تكن حقيقة المشهد السائدة خلال السنوات الماضية فإن ما جرى على الأرض يؤكد أن الوضع الأمني في المنطقة العربية أصبح في غاية الهشاشة على خلفية هذه الأحداث، بمعنى أنه أصبح مناخاً طارداً للاستثمارات، وهذا بالفعل ما استفادت منه أطراف وقوى إقليمية على حساب العرب.

فإذا تناولنا مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين رسمياً في أيلول عام 2013، فإنها تركز بالدرجة الأولى على الاستثمار في البنية التّحتيّة، والتّعليم ومواد البناء، والسّكك الحديديّة والطّرق السّريعة، والسّيارات والعقارات، وشبكة الطّاقة والحديد والصّلب.

وأيّاً تكن الأهداف المعلنة لهذه المبادرة التي تعدّ بديلاً لطريق الحرير القديم الذي كان يربط الصين في القرن التاسع عشر بدول العالم، فإنها تعدّ مبادرة كبيرة في مجال التنمية، حيث ترغب الصين في تعويض تأخرها الاقتصادي في أواسط القرن التاسع عشر عندما كانت تتصدّر العالم اقتصادياً، وتحاول العودة عبر إحياء طريق الحرير السابق الذي كان يربطها تجارياً بالعالم الخارجي من خلال مجموعة طرق برية وبحرية تساعد على تأمين تدفق سلس للبضائع الصينية إلى دول العالم، وهذا ما يفسّره الغرب على أنه رغبة صينية في اجتياح العالم من خلال الاقتصاد، غير أن الصين تؤكد أن هذه المبادرة تعدّ مبادرة واعدة في سبيل نشر التنمية والتطور في البلدان التي تكون ممراً لبضائعها، وهي تشترط على الدول التي تشترك معها في المبادرة تحقيق تنمية بشرية جيدة على الأرض حتى تتمكن من ربطها بالمبادرة.

وهذه المبادرة حسب الرؤيا الصينية تعالج “فجوة البنية التحتية”، وبالتالي لديها القدرة على تسريع النمو الاقتصادي عبر منطقة آسيا والمحيط الهادئ وإفريقيا ووسط وشرق أوروبا، ويقدّر تقرير من مجلس المعاشات العالمي (WPC) أن آسيا وحدها دون الصين تتطلب ما يصل إلى 900 مليار دولار من استثمارات البنية التحتية سنوياً على مدى العقد المقبل وبنسبة 50٪ أعلى من معدلات الإنفاق الحالية على البنية التحتية، وتغطي المبادرة أكثر من 68 دولة، بما في ذلك 65٪ من سكان العالم و40٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بدءاً من عام 2017.

وبغض النظر عن جميع الامتيازات التي تتيحها المبادرة المبنية أصلاً على طريق الحرير القديم، من تطوير للمعاملات المالية الدولية وتطوير البنى التحتية للدول الآسيوية، وتقوية العلاقات الدبلوماسية مع تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة وخلق أسواق جديدة للمنتجات الصينية، وتصدير القدرة الصناعية الفائضة، ودمج البلدان الغنية بالسلع بشكل أوثق في الاقتصاد الصيني، فإن المبادرة تؤمّن تنمية مستدامة لجميع الدول التي تمرّ بها وتقضي على أحلام الإمبريالية العالمية بالسيطرة على العالم عبر الهيمنة على الاقتصاد والتحكم بسياسات الدول.

وهذا المشروع الكبير يؤثر اليوم في أكثر من 60٪ من سكان العالم وحوالي 35٪ من الاقتصاد العالمي، ويمكن أن تمثل التجارة على طول طريق الحرير ما يقرب من 40٪ من إجمالي التجارة العالمية، حيث يتم أغلبها عن طريق البحر، وهذا ما يفسّر حرب الموانئ القائمة في العالم حالياً، حيث تسيطر الصين حالياً على أهم الموانئ الكبيرة في العالم، وتسعى دول عديدة إلى تطوير موانئ على أراضيها أو استثمارها خارجياً بما يتناسب مع الشروط التي تفرضها الصين حالياً، حيث إن هناك أنموذجاً معيّناً من الموانئ لا بدّ من الالتزام به للتماشي مع حمولة الناقلات والسفن التجارية القادمة من الصين، إذ يتم توسيع موانئ المياه العميقة، وبناء مراكز لوجستية وإنشاء طرق مرور جديدة في المناطق النائية، حيث يمتد طريق الحرير البحري بوصلاته من الساحل الصيني إلى الجنوب عبر هانوي إلى جاكرتا وسنغافورة وكوالالمبور عبر مضيق ملقا عبر سريلانكا باتجاه الطرف الجنوبي للهند عبر مالي عاصمة جزر المالديف إلى مومباسا شرق إفريقيا من هناك إلى جيبوتي ثم عبر البحر الأحمر عبر قناة السويس إلى البحر الأبيض المتوسط، وهناك عبر حيفا واسطنبول وأثينا إلى منطقة البحر الأدرياتيكي العليا إلى مركز ترييستي بشمال إيطاليا بمينائها الدولي المجاني وسكك الحديد وصلات لأوروبا الوسطى وبحر الشمال.

ما يهمّنا هنا ما يمثله هذا المشروع لدول المنطقة بداية من العراق الذي تؤكد الحسابات الاقتصادية أنه سيتجاوز حجم ٥٠٠ مليار دولار بين الصين والعراق، حيث سيتحول العراق إلى مركز للتجارة العالمية نظراً إلى اختصار المسافة إلى أوروبا بمعدل النصف تقريباً بإيرادات تعادل إيرادات النفط تقريباً، الأمر الذي سينوّع مصادر الدخل في هذا البلد.

وتبلغ مساحة مشروع الفاو ٥٤٠٠٠ كم ليصبح الميناء الأكبر بين ١٠موانئ عالمية، بكاسر أمواج يبلغ ١٦ كم، وهو أطول كاسر أمواج في العالم قبل كاسر الأمواج الأمريكي غالفستون في تكساس الذي يبلغ طوله نحو 11 كم.

كل ذلك فضلاً عن التنمية التي يقدّمها المشروع على مستوى متوسط دخل الفرد الذي سيبلغ 800 دولار شهرياً، الأمر الذي سيقضي على البطالة ويحقق الاستقرار الاجتماعي، حيث تتضمّن الاتفاقية العراقية الصينية إنشاء المشاريع الصناعية والزراعية الاستراتيجية العملاقة وإنشاء محطات الطاقة الكهربائية وبناء المجمعات السكنية وبناها التحتية وإنشاء الطرق والجسور والأنفاق الحديثة ومدّ سكك الحديد الفائقة السرعة وإنشاء الجامعات والمدارس والمراكز العلمية وبناء المستشفيات الحديثة وتأهيل المواقع الأثرية والسياحية وإنشاء السدود والبحيرات وتنظيم الري والمطارات.

هنا يحضر الانقلاب على الشركات الصينية التي قدّمت عروضاً لتطوير ميناء الفاو هي الأقل سعراً من شركة دايو الكورية الجنوبية الخاسرة أصلاً المملوكة من شركة جنرال موتورز الأمريكية بعد شرائها لها والتي لا تزال إلى الآن تراوح في مكانها، في الوقت الذي تتمتع فيه الشركات الصينية الثلاث بمركز متقدم وفق التصنيف العالمي في الرصانة والكفاءة الفنية والمالية بالمشاريع الإنشائية.

وقد صرّح الرئيس الأمريكي جو بايدن في لقاء متلفزٍ، بأن مشروع الحزام والطريق “يتحرّك بسرعة، وإن لم نتحرك فإنهم سيلتهمون طعامنا”، وذلك في تصريح فاضح يشير إلى عراقيل تضعها واشنطن في طريق هذا المشروع ليس في العراق فقط الذي يُراد له أن يبقى مرتبطاً بالاقتصاد الأمريكي، بل على مستوى العالم، لذلك أوعزت واشنطن إلى عملائها في الخليج والمنطقة للتحرك بالتنسيق مع الكيان الصهيوني لإفشال مشروع ميناء الفاو بكل الوسائل، وتحويل المشروع من ميناء جبل علي مباشرة إلى ميناء حيفا عبر الكويت تحت عنوان (مشروع الشام الجديد)، وكل محاولات ضرب الاستقرار في العراق تصبّ في هذا الاتجاه، وكذلك سعي النظام السعودي إلى استثمار الأراضي غرب العراق زراعياً تصبّ في خانة تعطيل أي إمكانية لمرور الطرق عبر بادية السماوة إلى سورية، والأمر ذاته ينطبق على سنجار شمالاً التي تُتعمّد إثارة الفوضى فيها عبر زرع الجماعات الإرهابية.

وقد عبّر السياسي الكويتي عبد الله النفيسي عن الدور الخليجي في تعطيل هذا المشروع بشكل واضح بقوله: “إن نجاح مشروع الفاو الكبير يعني خراب الخليج وخاصة الكويت التي سترجع إلى حضن العراق طواعية”، لذلك كان مشروع التعاقد مع شركة دايو مدبّراً لعرقلة إتمام الاتفاقية العراقية الصينية.