من “ما يطلبه الجمهور” إلى “لا تنسي المجدّرة” مع التّحية
كانت الأخت أم عمّار – كما أحبّ مشاهدو “ما يطلبه الجمهور” مناداتها – تطلّ كلّ خميس برصانةٍ ووقار وابتسامةٍ كالنّسمة وصوتٍ رهيف يتلقّفه محمود فلاحة بحبٍّ وشوقٍ ويردّه بأجمل منه.. ولمن لا يعرف هذا الرّجل فهو مغترب سوري في ألمانيا كان حريصاً مساء كلّ خميس على الاتّصال بمقدّمة البرنامج ماريا ديب لإلقاء السّلام والتّحية على عائلته، أيّام كان للاغتراب قسوته وللحنين شجونه وللاتّصال عبر الهاتف الأرضي صعوباته.. وأيّام كان ينقطع الاتّصال بسبب كثرة المحبين والمتابعين والعاشقين من دون أن تنقطع كلماتها النّدية، بل كانت تسترسل فيها بعذوبة وصدق كما لو كانت على ثقةٍ بأنّها ستحطّ في المكان المنشود.
“ما يطلبه الجمهور” وغيره الكثير من البرامج التي كانت تبثّها القناة الأرضية السّورية وكنّا نتسمّر أمامها مشدوهين بالمعلومة والصّورة والصّوت والّلغة، شكّلت هويّة لأجيال كاملة وساهمت في تكوين ثقافة عامّة أثبتت قوّتها وقدرتها على التّفاعل مع ما جاء بعدها من ثقافات والنّهل منها ومدّها أيضاً بموارد وكفاءات ثقافية كان لها حضورها على السّاحة العربية والعالمية، وكانت لها حيويتها التي مكّنتها من مواكبة مستجدات الثّورة التّقنية والتّعامل معها بتعقل بعيد كلّ البعد عن السّلوكيات اللاأخلاقية التي يفاجئنا فيها كل يوم “مثقفو الفيسبوك”!.
ما أتانا اليوم على نبش ذكريات برنامج “ما يطلبه الجمهور” هو استحضاره على إحدى القنوات الإذاعية المحلية يوم الخميس الفائت، حيث خصّصت المذيعة حلقة كاملةً لتلبية طلبات المستمعين، مذكّرة إياهم بضرورة الالتزام بصيغة المراسلة التي كانت متّبعةً فيه وهي (من فلان إلى فلان بمناسبة كذا ومع التّحية).. لفتةٌ جميلةٌ تفاعل معها بعض المستمعين وطلبوا أغاني قديمة كتلك التي كانت سائدة آنذاك، معبّرين عن حنين غاب عن آخرين أحبّوا أن يضيفوا لهذه اللفتة نكهةً كوميدية أيضاً، ولاسيّما أنّنا في ظروف صعبة لا ينفع معها سوى الابتسامة الصّادقة والكلمة الطّيبة، فكانت رسائلهم مبعث فرح لم تُخفِه مقدمة البرنامج بل تفاعلت معه بضحكة جميلة، أمّا المستمعون فأتحدّث عن نفسي وأصّرح بأنّي ضحكت فرحاً وابتسمت حزناً وشوقاً لأشياء بسيطة كنّا أغنياء معها.. من هذه الرّسائل على سبيل المثال لا الحصر (من أم فلان إلى أبو فلان في الصّالون جيب جرّة الغاز مع التّحية) وأخرى (من أبو فلان لأمّ فلان لا تنسي طبخة المجدّرة مع التّحية) و(من أم فلان إلى أبنائها وبناتها قوموا ساعدوني بترتيب البيت) وغيرها من الرّسائل التي لم تترك من البرنامج سوى اسمه، وحرّكت الهمّ الإعلامي والثّقافي الرّاكد أحياناً بإرادتنا وربّما باستسلامنا لفكرة الزّمن يتطوّر ولكلّ ساعة أهلها، ولعلّ السّاعة الآن لبرامج إذاعة تفاعلية غير مكتملة الهوية، ففي الوقت الذي يكون المحتوى جيداً يكون التّفاعل رديئاً وفي الوقت الذي يكون التّفاعل جيداً يكون المحتوى رديئاً، كأن يصبح أمراً شخصيّاً لا علاقة لنا به قضية برنامج لساعة كاملة تماماً كما يحدث في إذاعة أخرى، حيث يصبح صراخ وعويل المذيع صفة ملاصقة لأي موضوع ظنّاً منه أنّه كلما ارتفع العويل والاستهجان كلّما ازداد عدد المستمعين، ولاسيّما أنّ مواضيع من نمرة خلاف بين زوجة وزوجها بسبب شرائها سترةً لم تعجبه هي السّائدة!.
أقول قولي هذا وكلّي أمل بألّا يأتي يوم يميّع فيه الأمر أكثر ويصبح “شوربا” ونلقي عليه التّحية ونستذكر الـ”مجدرة” بالخير والشّوق.
نجوى صليبه