مخاطر انعدام الارتباط بين الإنتاج والتسويق..!
عبد اللطيف عباس شعبان
كثيرا ما تكررت أزمات تسويق هذا المنتج الزراعي أو الحيواني أو غير ذلك من المنتجات في بلدنا، ما أوقع آلاف المنتجين في خسائر أرهقتهم وأخرجت بعضهم من الإنتاج كليا أو جزئيا، وغالبا جاء التحسس الرسمي لمخاطر ذلك متأخرا بعد استفحال الأزمة، واقتصرت المعالجات على وعود دون إجراءات علاجية شافية، حتى موعد تكرر الأزمة ثانية وثالثة لهذا المنتج أو ذاك وهكذا دواليك..
ففي أكثر من عام، غمر إنتاج البطاطا السوق في موسم الجني – وأحيانا الفروج – حتى أصبح سعر الكيلو أقل بكثير من سعر الكلفة، دون أن يترافق ذلك مع جهود كافية لحفظ المحصول في البرادات أو لتصديره بسعر يغطي الكلفة وعوائد أتعاب المنتج، والكميات التي كان يتم تخزينها من المستهلكين كمؤونة، أو من التجار لغاية إنزالها إلى السوق تباعا خلال فترات عدم الإنتاج، كانت قليلة جدا، وغالبا كانت تتم من المعروض في أدنى أسعاره، فكم من موسم خسر فيه المنتجون الملايين، بسبب انخفاض الأسعار كثيرا عن الكلفة، ما أدي لانخفاض عدد المنتجين وانخفاض كميات الإنتاج وارتفاع الأسعار بشكل كبير في الموسم اللاحق ما تسبب في ضعف الإنتاج في الموسم التالي إضافة إلى أسباب ارتفاع قيمة – أو صعوبة توفر – مستلزمات الإنتاج بأنواعها، ما أظهر الحاجة للاستيراد من الخارج بين حين وآخر، وكثيرا ما تم استيراد الفروج المثلج أو البطاطا، أوليس من الغريب أن يستورد بلدنا الزراعي البصل والثوم والبطاطا بين حين وآخر، ومجددا استيراد خيوط النسيج بدلا من الخيوط القطنية التي كنا نفاخر بها، واستيراد القمح الذي كان رمز صمودنا في وجه التحدي الاقتصادي الخارجي.
حقيقة الأمر أن أزمات تسويق العديد من المنتجات لم تكن وليدة سنوات الحرب الإرهابية، بل كانت قبلها وتكرَّست خلالها ولا تزال مستشرية، وستبقى أزمات تسويق الكثير من المنتجات – وخاصة الزراعية والحيوانية – قائمة وتتكرر ما لم تتم المزيد من الإجراءات الإدارية والاقتصادية التي تحقق الترابط بين الإنتاج والتسويق، وخاصة للمنتجات الأكثر كمية في الإنتاج والأكثر أهمية للمستهلك، على غرار الترابط القائم منذ عقود بخصوص تسويق الحكومة للإنتاج الكبير من مادتي القمح والقطن الذي أسفر دائما عن انعدام أزمة تسويق هذين المحصولين الكبيرين، نتيجة استعدادات مدروسة لاستلام الحكومة لكامل الإنتاج السنوي وبتحضيرات مسبقة تُمكِّن من البدء بالتسويق مع بدء كل موسم وبكل تراتبية حتى انتهائهّ، وحدث نجاح مماثل استمر لسنوات بالنسبة لتسويق بعض الخضار والفواكه – وخاصة تسويق التفاح – الذي مارسته الشركة العامة للخضار سابقا، ولكن الفساد الذي اعترى هذه الشركة أخرجها من السوق.
هذا الدور الأبوي المعهود المشكور للدولة، والذي شجع المزارعين على المزيد من زراعة القمح والقطن، لم يرق لبعض رجالات الاقتصاد الذين تبوؤا مراكز قيادية في السلطة، وتنادوا جهارا لإلغائه بدلا من تكريسه، والمؤسف أن بعضهم نادى بالحد من إنتاج القمح بعد أن قارب إنتاجنا الخمسة ملايين طن، والحد من إنتاج القطن بعد أن قارب المليون طن، واشتهر قطرنا بقوته الدولية العظمى لأنه يأكل ويلبس من إنتاجه، وحجتهم أن هذين المحصولين يستهلكان كمية كبيرة من المياه، ونحن والعالم مقبلون على أزمة مياه، ومنذ أن بدأ هذا النداء تنظيرا والعمل به تدبيرا، بدأت أزمات تسويق آلاف المنتجات تتالى بما في ذلك الكثير من المنتجات الصناعية، نتيجة قرارات اقتصادية قضت بفتح السوق الخارجية أمام كثير من المنتجات المستوردة، وغض النظر عن بعض المواد المهربة التي حاربت المنتج السوري.
كثير من المنتجات في خطر – وخاصة الزراعية والحيوانية – ما لم يتم استدراك تسويقها، بالمزيد من الشركات التسويقية المتخصصة، والمتفرغة لتسويق مستلزمات الإنتاج للمنتجين حين حاجتها، بالكمية والنوعية المطلوبتين، والسعر البعيد عن أي غبن، وأن تكون هي نفسها معنية بتسويق المنتج داخل القطر وخارجه بالسعر الذي يضمن – كحد أدنى – كامل الكلفة مضافا إليها عوائد العمل الذي قام به المنتج، وعوائد رأس ماله النقدي الذي استثمره في العملية الإنتاجية، وعوائد الأرض والمعدات والآليات التي استخدمها.
المؤسف أن الحكومات السابقة كانت مقصِّرة بهذا الشأن، يوم كانت تملك بعض المقومات التي تمكنها من ذلك، ولكن الحكومات الحالية تفتقد الكثير من تلك المقومات وتنقصها النوايا، ما جعلها ضعيفة الهمة وقليلة الاهتمام، متذرعة بضعف جدوى ما تنشده أو تقوم به من إجراءات، والقطاع الخاص الذي كان معولا عليه، لم يكن عند حسن الظن، ما يرتب ضرورة قيام الحكومة بتكثيف ملتقيات اقتصادية بحثية، تسفر تطلعاتها عن إجراءات إنقاذية عاجلة تنسق بين حجم الإنتاج والطاقة التسويقية لأهم المحاصيل، وليكن للوزارات والمنظمات والنقابات دور منصوص عليه مجدد، ومعمول بما هو منصوص عليه في مهامها سابقا، قبل المزيد من التردي الذي نشهده هذه الأيام.
أليس من حق المراقب أن يقول أليست مكاتب التسويق المركزية والفرعية في وزارة الزراعة والاتحاد العام للفلاحين مسؤولة عن التسويق الأمثل والأكمل للإنتاج ومستلزماته، أم أنها تكتفي بحمل الاسم وتتقاضى رواتبه وتعويضاته فقط، ألا من المستوجب أن تكون المسؤولية أيضا ملقاة على عاتق كل من نقابة المهندسين الزراعيين ونقابة الأطباء البيطريين، وهل من الجائز أن تبقى مهام النقابات محصورة بجباية الاشتراكات وتوزيع التعويضات، وهكذا بقية الوزارات والنقابات، فلتصدر تشريعات تكلف جميع الجهات الرسمية والمنظماتية وغرف التجارة والصناعة رسميا بالمهام التسويقية، وبالتقاسم فيما بينها، لا أن توضع الكرة في مرمى الجمعيات الأهلية فقط، كما ورد في التوجيهات الأخيرة حول الحمضيات.
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية