الكيان الصهيوني وحراس الحضارة الغربية
علي اليوسف
إن ما يحدث في فلسطين لا يمكن تصوّره حتى في ذروة إمبريالية القرن التاسع عشر، حيث يتعرّض الشعب الفلسطيني للاضطهاد والذبح كل يوم على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي. ورغم كل هذا الكمّ من الجرائم، لا أحد يحاسب ويعاقب المجرم، بل هو على الدوام يفلت من العقاب. حتى المؤسّسات الدولية، مثل محكمة العدل، والجنايات الدولية، أو منظمات حقوق الإنسان، تقف عاجزة ومكتوفة الأيدي، هذا إن لم تكن هي نفسها متواطئة في ارتكاب هذه الجرائم!.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، لم يقدم من يسمّون أنفسهم حراس “الحضارة الغربية” سوى الخراب، ونشر ثقافة العنف، ولم يشعر أحد من هؤلاء الحراس بالقلق تجاه هذه الجرائم ضد الإنسانية، بل نراهم يسافرون حول العالم لجمع الملايين من أجل مؤتمراتهم ومؤسّساتهم “الخيرية”، كما لم يسمع أحد أي كلمة واحدة من أيّ منهم عن الأرواح التي سرقوها أو دمروها، حتى قتل الأطفال لم يجعلهم يعترفون بالذنب ولم يحرك ضمائرهم.
على مدار القرن الماضي، كان المستفيد الرئيسي هو الكيان الإسرائيلي الذي احتل فلسطين منذ عام 1948، ولأن هذا الكيان هو قلب وروح السياسة الخارجية الأمريكية، فقد حصلت قوات الاحتلال الاسرائيلي على 1.5 مليار دولار إضافية من أمريكا لشراء طائرات حربية وطائرات بدون طيار وقنابل مضادة للتحصينات، بحسب ما أكده رئيس الأركان الصهيوني آفي كوخافي. وحتى رئيس الوزراء نفتالي بينيت، مثل سلفه نتنياهو، لا ينوي التنازل عن أي شيء للفلسطينيين، ولا يرى حاجة للتفاوض، ولا حاجة للتنازل عن أي شيء.
لقد خلق الدعم الاقتصادي والعسكري غير المحدود واللا مشروط من الولايات المتحدة وهم القوة المطلقة لدى الكيان الصهيوني. ولفهم هذا السلوك الغربي، يجب ألا يغيب عن البال الدعم الاستعماري للمشروع الصهيوني، منذ ولادته وحتى يومنا هذا، ودليل ذلك أن المراكز الاستعمارية التي ابتدعت هذا المشروع منذ وعد بلفور عام 1917، هي نفسها التي قولبت معظم السيناريوهات المستقبلية للكيان المحتل. كما أن الأمر لا يتوقف عند حدود وعد بلفور، بل نجده من خلال اتفاق سايكس بيكو في عام 1916 بتقسيم الوطن العربي إلى دويلات ترافقت مع هذا الوعد، ومتواكبة مع ولادة المشروع الصهيوني ومستجداته العالمية منذ الحرب العالمية الأولى، وحتى قيام ما يُسمّى بدولة إسرائيل عام 1948، عبر مؤتمر باريس للسلام عام 1919، والحرب العالمية الثانية ومن خلال تشكل عصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة.
من هذا المنطلق، رعت المراكز الاستعمارية المشروع الصهيوني بعناية فائقة ليشكل القاعدة المتقدمة في التصدي لنضال الحركة القومية العربية وإحباطها، ولولا هذه الرعاية لما قام المشروع الصهيوني، بل لما تبلور كفكرة أصلاً، لأن اعتماد القوة اليهودية الذاتية كقوة كافية مسيّرة للمشروع الصهيوني لا يكفي للقيام بمثل هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني. وبغضّ النظر عن رغبات المراكز الاستعمارية ودور النخب اليهودية المنخرطة في مؤسساتها، لبلورة الفكرة الصهيونية وترويجها، فإن المشروع الصهيوني لن يكتب له النجاح لولا أن تهيأت أوضاع التجمعات اليهودية لتقبل هذه الفكرة الصهيونية والانخراط فيها عبر الهجرة والاستيطان على أساس القاعدة المطروحة صهيونياً.
في المقابل، لا تزال هناك أصوات غربية وأمريكية تحديداً ترفض هذا الكيان، وترفض ممارساته الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، وما يدلّ على ذلك استطلاعات الرأي التي تجريها مراكز الدراسات والتي تجمع في معظمها على أن غالبية الأميركيين يعارضون تقديم مساعدات غير مقيدة للكيان الإسرائيلي في ظل ما يرتكبه من سياسات عدوانية وعنصرية.
ومع تغيّر موازين القوى ومعادلات النفوذ، كشف استطلاع حديث أجراه “المعهد العربي الأميركي” في واشنطن أن معظم الأميركيين وأغلبية كبيرة من الديمقراطيين يعارضون تقديم مساعدات مالية وعسكرية غير مقيدة للكيان الإسرائيلي إن استمرت في توسيع المستوطنات بالضفة الغربية المحتلة. كما كشف الاستطلاع أيضاً وجود “انقسام حزبي” في الولايات المتحدة حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ففي الوقت الذي أظهر الجمهوريون مزيداً من الدعم للسياسات الإسرائيلية في ملفات متعدّدة، كانت هناك تحفظات من قبل الديمقراطيين.
وفي هذا السياق، ومع انطلاق لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في هجمات الكيان الصهيوني على غزة العام الماضي، قدّمت عضو الكونغرس الديمقراطية بيتي ماكولوم مشروع قانون يهدف لضمان عدم استخدام المساعدات العسكرية الأميركية والبالغة 3.8 مليارات دولار سنوياً، في تمويل الانتهاكات ضد الفلسطينيين بما في ذلك سجن الأطفال وهدم المنازل. كما حاول أعضاء في الكونغرس، بقيادة النائبة ألكساندريا أوكاسيوكورتيز منع صفقة أسلحة بقيمة 735 مليون دولار في وقت كانت الحملة العسكرية على قطاع غزة متواصلة.
هذا التجاذب الحزبي يسلّط الضوء على “التحول المستمر” الذي بات يشهده الرأي العام الأميركي تجاه الكيان الإسرائيلي، وخاصة في صفوف الديمقراطيين، حيث أظهر استطلاع آخر لمؤسّسة “غالوب” أن غالبية الديمقراطيين يدعمون ممارسة المزيد من الضغط على تل أبيب من أجل حلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.