الأسواق السورية تفقد “التنزيلات” على خلاف نظيراتها في العالم الناشطة حالياً
موسيقا صاخبة، وواجهات محال ازدحمت بأرقام استعراضية تُدخلها في ماراثون التنافس مع باقي المحال لتُعلن استقبال السوق المحلية لموسم التنزيلات المُرتقب بكثير من التخوّف، وقليل من الأمل من قبل التجار الجالسين على مدار أشهر لاستقبال زبائن لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة في اليوم، خاصة أن البضائع المركونة في المحال لم يتغير أغلبها منذ بداية موسم مبيع الألبسة الشتوية، وصولاً إلى موسم التنزيلات التي لم تعد تخفى على أحد الألعوبة التي يمتهنها التجار في هذا الموسم في محاولة لإغراء وإجبار المستهلك للانصياع والشراء في هذه الفترة من كل عام، ولكن، على ما يبدو، كانت لهذا العام خصوصية معينة جعلت البضائع على مختلف أنواعها وألوانها وأحجامها تتكدس في المحال والمستودعات التي لم يرض أغلب التجار تخفيض سعرها أكثر من 30% من جهة، ولا جيب المواطن يستطيع شراءها حتى بعد التخفيضات التي يتخطى بها سعر أية قطعة راتبه الشهري من جهة ثانية!.
كساد البضاعة
من يراقب حركة الأسواق هذه الأيام يلمس حالة الكساد الكبيرة للبضائع المعروضة بأسعار خيالية تجاوزت في الأسواق الشعبية خمسين ألفاً للكنزة أو البنطال، في حين ارتفعت أسعار الأحذية أضعاف العام الماضي ليصبح شراء الحذاء يحتاج إلى سلفة على الراتب، ولم ينكر تجار الألبسة ارتفاع سعر جميع مستلزمات هذه الصناعة، الأمر الذي اضطرهم لرفع سعر الألبسة والأحذية، وعدم قدرتهم على الدخول في موسم التنزيلات أكثر من الحدود التي وضعوها، والتي تدرّ عليهم هامش ربح بسيطاً، ورفض التجار إلقاء اللوم عليهم، والطلب منهم تحمّل الخسائر دوماً تحت ذريعة أن “عظامهم من ذهب”، فالدخول في عالم التجارة يعني الخوض في معارك الخسارة والربح، إلا أن استمرار التاجر بالخسارة دوماً يشي بكارثة اقتصادية، وهجرة الصناعيين، أو الانتقال إلى صناعة أقل خسائر لهم، وهذا ما لا تتنبّه لخطورته الجهات المسؤولة، ويطالب التجار اليوم في ظل العقوبات الاقتصادية وشق الأنفس للخروج بصناعة منتج وطني مع شح في المحروقات والكهرباء واليد العاملة، وأدنى مقومات الإنتاج الصحيح، بتبرير ارتفاع الأسعار حتى في موسم التنزيلات، وعدم وضع اللوم دوماً في سلة التجار.
منظومة سعرية
بين المواطن “الطفران”، والصناعي والتاجر المغلوبين على أمرهما، “حسب زعمهم”، فقدت الأسواق السورية موسم التنزيلات على اختلاف دول العالم التي تنشط فيها حركة الأسواق خلال الفترة الحالية، إذ بات التفكير بالنزول إلى السوق يحتاج إلى رصد ميزانية كاملة، مع الكثير من الجرأة لدفع مبالغ خيالية لبعض الألبسة ذات الجودة المنخفضة والموديلات القديمة التي أكل الدهر عليها وشرب، وعلى الرغم من أن شمّاعة التجار القديمة بتوقف الكثير من المعامل وعدم توفر الأمن لنقل البضائع لم تعد موجودة، إلا أن تبريراتهم حاضرة دوماً وبقوة، فاستيراد بعض الأقمشة، وعدم توفر الكهرباء، وشح المحروقات للنقل، وغيرها من الحجج، جعلت بعض المحال تحاول الخوض بخجل في هذا الموسم، إذ انحصرت التنزيلات ببعض القطع ذات الجودة الأقل أو الموديلات القديمة، وتؤكد حركة السوق الميتة على ارتفاع أسعار الألبسة والأحذية إلى حدود فاقت القدرة الشرائية، وأدت لإحجام المواطنين عن الشراء لتصطف هذه البضاعة إلى جانب باقي السلع التي استغنى عنها المواطن هذا العام أيضاً!.
موديلات قديمة
أكد عامر ديب، عضو مجلس إدارة جمعية حماية المستهلك بدمشق وريفها، أن ما يتم عرضه في الأسواق هذا العام هو موديلات قديمة من ركود أو تصفيات لم تُصرّف، أو بضاعة تم تخزينها تحضيراً لطرحها في هذه المواسم بأضعاف مضاعفة، وعدم طرح موديلات جديدة، وسط غياب رقابة كاملة عن الأسواق، وتبريرات للتلاعب بالأسعار، وعدم إنصاف المستهلك، وبيّن ديب أنه في حال تم طرح تنزيلات وتخفيضات 40% على القطعة مع هامش ربح أكيد لا يقل عن 50% للتاجر، فربح التاجر بالمحصلة هو 100%، وهو مخالف للمرسوم رقم “8”، كذلك هناك من يقول إنه يبيع برأسماله ويُحمّل المواطن إيجار المحل والضرائب ورسوم المالية، وهذا أمر خاطئ، فالمواطن ليس شريكاً لمالك المحل، لذا يجب على التاجر حساب التكاليف الأساسية، إضافة إلى مصاريف 20%، ومن ثم يتم طرح السلعة، وأكد عضو مجلس إدارة جمعية حماية المستهلك بدمشق وريفها تدني المنتج المحلي من الألبسة والأحذية، وعدم تناسبها مع متطلبات المستهلك وقدرته الشرائية، لافتاً إلى أن التنزيلات لا تعدو كونها موضة أو لعبة تجارية موسمية، لاسيما أن السعر الذي يكتب بالتنزيلات هو السعر الحقيقي، بينما السعر القديم هو زيادة وهمية، وأن ما يتم العرض عليه هو بضاعة رديئة يريد التاجر التخلص منها، فالبضاعة المهرّبة اليوم في الأسواق أرخص من البضاعة المحلية للأسف، ونحن نعيش في حالة فوضى سوقية، ولا تنتهي القصة بالضبوط والإغلاق، بل الحاجة ماسة لمنظومة سعرية كاملة لضبط السوق، ولأخلاق فقدها معظم التجار.
تقاذف الاتهام
يتبادل الصناعيون والتجار أصابع الاتهام بين بعضهم، إذ أكد الصناعي “عصام قيطازو” ربح التاجر أضعافاً مضاعفة عن الصناعي تحت حجج ومبررات واهية، فالصناعي يتحمّل أعباء التصنيع، وتأمين أدنى مستلزمات الإنتاج للاستمرار، خاصة خلال سنوات الأزمة، مع الرضى الكامل بهامش ربح بسيط لرفد السوق المحلية بمنتج وطني في ظل انقطاع الاستيراد، ودخول البضائع المهرّبة، إلا أن طمع التجار بهامش ربح مخيف يحول دون تحقيق الهدف، لتصل البضائع المهرّبة بسعر يساوي سعر المنتج المحلي الموضوع من قبل التاجر، الأمر الذي يجذب المستهلك إلى المنتج الأجنبي لجودته مقارنة بالمحلي، ما يؤدي إلى ركود حركة الأسواق حتى في مواسم التنزيلات، وانتقد قيطازو إطلاق أحكام مسبقة من قبل المواطنين عن عدم وجود تنزيلات، ووصفها بالوهمية، فأصحاب المحال في نهاية المواسم يقومون بتصفية الموديلات القديمة مع المقاسات قليلة الطلب بهامش ربح قليل على مبدأ “مبيع كثير بربح معقول”، إلا أن الواقع الحالي، والأسعار المطروحة رغم محاولة تخفيضها، لا يناسبان القدرة الشرائية للمواطنين، خاصة أن هدف وسعي المواطن اليوم لتأمين قوته اليومي وتدفئته أهم من اللباس، لنصل إلى كساد البضائع عند معظم التجار وخسارتهم الكبيرة.
في المقابل أكد محمد كنيفاتي “تاجر ألبسة” تقيّد التجار بالشروط التي حددها القانون لهم للبيع في موسم التنزيلات بهدف تصريف البضاعة بشكل أكبر، مع تنشيط رأس مال التاجر، ما يحقق أرباحاً له يستفيد منها لشراء البضائع الربيعية والصيفية، لافتاً إلى أن التاجر والمستهلك مستفيدان من هذا الموسم على حد سواء ضمن الإمكانيات المادية للطرفين، وعدم خسارة أحدهما على حساب الآخر، وأن الإقبال خلال هذه الفترة غير مقبول ويزيد خسارة التجار لعدم قدرتهم على تصريف بضاعتهم دون خسائر.
رفاهية اللباس
لم يعد موسم التنزيلات يُغري المستهلكين ممن كانوا يرصدون له ميزانية خاصة، ولم يعد هوس التسوّق يشكّل الهاجس الأساسي للجنس اللطيف ممن يترقبن هذه الفترة من كل عام، فعلى الرغم من الضبوط اليومية لمخالفات شروط التنزيلات التي نص عليها القانون، إلا أنها على ما يبدو لم تشكّل رادعاً للتجار وأصحاب المحال ممن لا يقبلون بربح أقل من 50% في موسم التنزيلات، و100-200% في باقي الأيام، خاصة مع عدم وجود سعر ثابت لكل قطعة لدخول عدد من العوامل والمواصفات التي لا يمكن تحديدها، الأمر الذي يتطلب حلولاً أكثر جدية لتقليل تلاعب التجار بالمستهلك الذي لم يعد يقوى على تحمّل المزيد من عمليات النصب والاحتيال التي تفننوا بها خلال السنوات العشر الأخيرة، ليصبح اللباس كمالية ورفاهية لا ضرورة لهما أيضاً.
ميس بركات